التطريزُ ليس مجرَّد تقنيَّةٍ في عالمِ الموضة، إنه أيضاً احتفاءٌ بالماضي، والإبداعِ الإنساني في زمنٍ يسابقُ نفسه، ويخضعُ للتشفيرِ والترقيم، ويقتلُ روعةَ الحكايا التي تنسجها أيادٍ صغيرةٌ على مساحةٍ بيضاءَ من قماشٍ. في هذا الجانبِ، تساؤلاتٌ كثيرةٌ تبرزُ حول ارتباطِ التطريزِ بـ «الهوت كوتور»، ومخاوفُ تظهرُ من اندثارِ الحِرفة اليدويَّة المتوارثةِ عبر الأجيال. سنحاولُ الإجابةَ عن هذه التساؤلاتِ مع الدكتورة ياسمين دبوس التي تابعت تخصُّصها بالمجالِ في نيويورك، لنكتشفَ الوجه الآخرَ لهذه الحِرفة الدقيقة خلال رحلةٍ، نبحرُ فيها بحثاً عن الهويَّة الإنسانيَّة.
التطور الفني

في البدء، كان القماشُ، ثم جاء التطريزُ ليزخرفه، فهو فنُّ الرسمِ بواسطةِ الإبرة، وبعض الخيوط. هذا الفنُّ قديمٌ، إذ يعود إلى 30 ألفَ عامٍ قبلَ ميلاد المسيح فقد عُثِرَ في سيبيريا على قطعةِ قماشٍ، وجزماتٍ، وقبَّعةٍ مطرَّزةٍ برسومٍ، تشبه الصدفة، كانت مخبَّأةً في ملاجئَ وكهوفٍ للحيوانات. كذلك عُثِرَ على التطريزِ بالخيطِ الصيني على ملابسَ من الحرير في الصين، نُفِّذت بهذه التقنيَّة اليدويَّة، وتعود إلى نحو 6000 عامٍ قبل الميلاد. ويرجع بدءُ فنِّ التطريزِ إلى منطقةِ الشرقِ الأوسط تحديداً حيث أدرك الإنسانُ القديمُ أن التطريز، يُستَخدم ليصلَ الأقمشةَ ببعضها، ويُزيِّنها، لذا حفلت الأواني، والمنحوتاتُ، واللوحاتُ برسومٍ، تجسِّد أشخاصاً، يرتدون ملابسَ مطرَّزةً. في عامِ 1500 قبل الميلاد على الملابسِ والمفروشات، واكتسبَ شعبيَّةً في أوروبا، إذ عرفَ الفايكنج التطريزَ على القماشِ لإصلاحِ الملابس الممزَّقة، ثم بات التطريزُ يرمزُ إلى الحالةِ الاجتماعيَّة للشخصِ الذي يرتديه في عديدٍ من البلدان خاصَّةً في العصرِ الباروكي بأوروبا في القرونِ الوسطى. وشاع التطريزُ على الملابسِ الفلكلوريَّة، أنشئت عديدٌ من المشاغل في بريطانيا لإتقان فنِّ التطريزِ الإنجليزي Opus Anglicanum الذي انتشرَ في العالم على شكلِ لوحاتٍ فنيَّةٍ، تُعلَّق على الجدران. ومع بدايةِ مكننةِ المهنةِ في شرقِ سويسرا أواخرَ القرنِ الـ 19، استعان الكثيرون به لإصلاحِ، أو ترقيعِ، أو تمتينِ القطع، ثم ما لبث أن انتشرَ بغرضِ الزخرفة، لكنْ ابتكارُ آلاتِ التطريز التي سرَّعت آليَّة العمل، قلَّص من الأشغالِ اليدويَّة، خاصَّةً في برلين التي استعاضت عن ذلك بآلاتِ التطريزِ الحديثة. وبعد إطلاقِ الأقمشةِ ذات الطبعاتِ الملوَّنة، لم يعد التطريزُ اليدوي، الذي يقتضي احتسابَ الغرزات، عملياً، لذا شاعت تقنيَّةُ التطريزِ الحرِّ بالخرزِ والأحجار.
يمكنك أيضًا الاطلاع على تطريز بيان نمط فريد وجزء مبدع من ثقافة مياو العرقية


الخبرة الفرنسية

في عالمِ التطريز، برزَ محترفون فرنسيون متخصِّصون، دمجوا مهاراتِ الحِرفيين مع الإبداع، وحوَّلوا كلَّ غرزةٍ إلى حكايةٍ، تنبضُ بالحياة. من خلال خيوطهم، وألوانهم المتناغمة، أصبح التطريزُ لغةً، تُعبِّر عن الثقافةِ، والفلكلورِ، والهويَّة، وتعدُّ هذه الأسماءُ رموزاً في هذا الفنِّ الرائع.
أتولييه مونتيكس Atelier Montex
تجمع ورشةُ مونتيكس Montex بين التقاليدِ العريقة، والإبداعِ المعاصر، وهذا ما منح تطريزه سحراً خاصاً. النقوشُ المتطوِّرةُ، والعصريَّة، والثمينة، تُصنَع جميعها باستخدامِ الخياطةِ بالإبرة، أو تطريزِ لونيفيل Lunéville Crochet.
لوساج Lesage
دارٌ إبداعيَّةٌ، تعاونت مع أكبر المصمِّمين. وتقومُ لوساج Lesage بتصميمِ وتطريزِ النقوش الفاخرة التي تتميَّز بالفخامةِ والابتكار.
كريستيان لاكروا Christian Lacroix
تصاميمُ كريستيان لاكروا Christian Lacroix، تجمعُ بين الفخامةِ والعفويَّة. يفضِّلُ الحِرفَ اليدويَّة مثل الخرزِ، والتطريز، ويتميَّز بحسٍّ قوي في الألوان، وتمتزجُ الأنماطُ في تصاميمه بشكلٍ مميَّزٍ.


الغرزات المعروفة في التطريز اليدوي

Zardozi
تقنيَّةٌ من الهند، تُنفَّذ باستخدامِ الأحجارِ اللامعة، والخرزِ على فساتينِ الزفاف، وفساتينِ السجَّادة الرسميَّة.
Kantha
تقنيَّةٌ، تُطرّز من منطقةِ كنتا، وتناسبُ الحياةَ اليوميَّة، وهي عبارةٌ عن غرزاتٍ منفصلةٍ برسومٍ بسيطةٍ.
Chikankari
تطريزٌ منمَّقٌ بالزهور، يستعانُ فيه بخيوطٍ بيضاءَ على قماشٍ رقيقٍ لأزياءٍ أنيقةٍ مثل الكريب جورجيت، والقطن.
Phulkari
تطريزٌ هندي، يستعانُ فيه بخيوطٍ برَّاقةٍ لامعةٍ على أزياءَ تراثيَّةٍ، وقفاطينَ، وعباءاتٍ.
إبداع التطريز: فن يروي الحكايات عبر الغرز.
ما رأيك الاطلاع على في السعودية قصص ترويها الأبواب عن تراث نجد الأصيل
روعة الأزياء الراقية
التطريز والكوتور: قمة الانصهار وصلة الماضي بالحاضر

كما يحتاج الليلُ إلى النهار، والأبيضُ إلى الأسود، والتطريزُ إلى القماش، يبرزُ عالمُ «الهوت كوتور» بوصفه منقذاً لحِرفة التطريز. جمالُ التطريز، الذي يستهلكُ ساعاتٍ من الإبداعِ اليدوي، وتسميه دارُ شانيل Petites Mains، لا يظهرُ دون ثوبٍ راقٍ، يجسِّد هذا العملَ الفنِّي الذي يبدو مثل لوحةٍ هاربةٍ من يدِ رسَّامٍ. الموضةُ الراقيةُ عالمٌ، يكتنزُ الحِرفيَّة المتوارثةَ من جيلٍ لآخر، منها تقنيَّةُ Luneville Embroidery الفرنسيَّة المعروفةُ باستخدامِ الخرزِ، والترترِ، والخيوطِ لحبكِ رسومها بأساليبَ نافرةٍ، تطوَّرت مع الزمن، لتصبحَ ثلاثيَّة الأبعاد. وقد لجأت إلى هذه التقنيَّة في التطريزِ دورٌ عالميَّةٌ، بينها ديور، وشانيل، وإيلي صعب، وتكمن عظمتها في زخرفةِ القماش، والبراعةِ في حبكةِ القَصَّة، إذ يتحوَّل الفستانُ معها إلى قِصَّةٍ، تروى فصولها برسومٍ وتفاصيلَ منمَّقةٍ، تُشكِّل كلَّ الفرق.

- شانيل الخياطة الراقية ربيع 2025 Chanel.
- جورجيو أرماني بريفيه الخياطة الراقية ربيع 2025 Giorgio Armani Privee.
- سكياباريللي Schiaparelli.
- سكياباريللي Schiaparelli.
- إيلي صعب الخياطة الراقية ربيع 2025 Elie Saab.
- جيامباتيستا فاللي الخياطة الراقية ربيع 2025 Giambattista Valli.
- تفاصيل التطريز في مجموعة جورج حبيقة الخياطة الراقية ربيع 2025 Georges Hobeika.
- وشاح مطرّز من جورج حبيقة الخياطة الراقية ربيع 2025 Georges Hobeika.
- جورج حبيقة الخياطة الراقية ربيع 2025 Georges Hobeika.
- أرماني بريفيه الخياطة الراقية ربيع 2025 Armani Privé.
- جيامباتيستا فاللي الخياطة الراقية ربيع 2025 Giambattista Valli.
قصص منسوجة

التطريزُ حِرفةٌ قيِّمةٌ، ترتبطُ بالتراث، لذا يجب على كلِّ بلدٍ الحفاظُ عليها من الاندثار، وعلى الجهاتِ الرسميَّة دعمها. وهنا تبرزُ المبادراتُ الفرديَّة في بلدانٍ، تعاني من أزماتٍ للحفاظِ على هذه الحِرفة مثل لبنان، الذي يعدُّ حسبَ الخبراءِ في هذا الفنِّ من أغنى الدولِ بأنواعِ الغرزات في الشرق الأوسط. لمناقشةِ ذلك، التقينا الدكتورة ياسمين دبوس، وهي مجازةٌ في الإعلام ودرست فنونَ التصميمِ على القماش والتطريزِ عليه في نيويورك، وعادت إلى لبنان، وأسَّست مع شريكةٍ لها معهدَ مجال للتصميمMajal Design School الذي يقدِّمُ دوراتٍ تدريبيَّةً في التطريزِ والتصميمِ على القماشِ للهواةِ، ومصمِّمي الأزياء، والحِرفيين الراغبين في تعلُّم هذه الحِرفة، والهدفُ الرئيسُ من ذلك تمكينهم منها لجني المالِ، خاصَّةً النساءَ في المنزل.

توضح الدكتورة ياسمين، أن التطريزَ فنٌّ، يجسِّد الهويَّة، والمعتقدَ فكلُّ قطبةٍ، أو غرزةٍ، ترتبطُ ببلدٍ ما، وكلُّ شكلٍ نرسمه بالإبرة، يرمزُ إلى حضارةٍ معيَّنةٍ تماماً كما يرتبطُ الرمَّانُ بالبلدانِ الخليجيَّة، ويدلُّ في المملكة العربيَّة السعوديَّة، بشكلٍ خاصٍّ، على الخصوبةِ والازدهار، لذا ارتبطَ التطريزُ الذي يعتمدُ على هذه الفاكهةِ بـ «جهاز العروس التقليدي». تقولُ المصمِّمة: «هناك أنواعٌ من الغرزات، ترتبطُ ببلدانٍ محدَّدةٍ، وهناك ألوانٌ، وطرقُ تطريزٍ، تجعلنا نحن الخبراء، ندرك منشأ القطعةِ، وتاريخها، ورمزيَّتها. مثلاً قطبةُ Cross Stich، نشأت في فلسطين، وهي متداولةٌ في لبنان، وسوريا، والأردن. أمَّا قطبةُ ماراش Marach، فهي أرمنيَّةُ الأصل، لذا تجدون أن الأرمن الذين هربوا من المجازرِ في بلادهم إلى لبنان، جلبوا معهم القماشَ المنفَّذ بهذه الغرزة، ليُحافظوا على تراثهم. وهناك غرزةُ Kantha المتداولةُ في الهند، وتختلفُ ألوانها حسبَ القبائل. أيضاً تبرزُ الغرزاتُ الفرنسيَّة المنفَّذةُ من الدانتيل، والقطبُ البريطانيَّة التي نستعينُ بها في الأزياءِ والأثاث».

وعن القيمةِ التي يمنحها التطريزُ في مجالِ الموضة وتصميمِ الأزياء، ذكرت ياسمين أن التطريزُ، يرتقي بالزي. عندما نرسم، نحن لا نكتفي بإضافةِ الألوان فقط، بل ونعطي القطعةَ أيضاً لمسةً حسيَّةً وبصريَّةً، تشترك فيها الحواسُ الخمس. التطريزُ بالإبرة، هو قطبةٌ نافرةٌ، تضيفُ لمسةً ثلاثيَّة الأبعاد للقطعة، وتخلقُ حيويَّةً، وترفعُ قيمةَ الزي، وتجذبُ الأنظار». مضيفةً: «التطريزُ يُبرِزُ أهميَّة سردِ القصص فرسومه تروي قصصاً جميلةً. عندما نُطرِّز أرزةَ لبنان، مثلاً، نحن نروي الشموخ، وحينما نمزجها بالأحمر، نروي الألمَ والحنين، لذا تحرصُ العرائسُ اليوم على تطريزِ رسومٍ على فستانِ الزفاف، تروي قصَّةَ تعارفِ الزوجين. كذلك يمكن تنفيذُ رسومٍ للأطفال تماماً كما حصلَ مع النجمةِ أنجلينا جولي التي ارتدت فستانَ زفافٍ مزداناً برسومِ أطفالها. حينما يُنفَّذُ الفستانُ مع تطريزٍ، هل يمكننا تخيُّل جمالِ النتيجة. هو في هذه الحالة، سيشبه تحفةً فنيَّةً دون شكٍّ. إذاً باختصارٍ، التطريزُ يكشفُ هويَّة المرءِ وتطلُّعاته.
يمكن التعرف على المصممة والفنانة اللبنانية نور الحاج


التراث السعودي

تنقسمُ المملكة العربيَّة السعوديَّة إلى خمسِ مناطقَ، تتميَّز كلُّ منطقةٍ منها بتقنيَّاتِ تطريزٍ وحبكاتٍ مختلفةٍ حتى ضمن القبيلةِ الواحدة. مثلاً تنفردُ المنطقةُ الغربيَّة بالتطريزِ «المكثَّف» الغزير، والتطريزِ التلي، وتطريزِ القصبِ بالذهب والفضَّة. أمَّا القبائلُ، فكانت تتميَّز بالزخارفِ النباتيَّة والهندسيَّة، وبعضها بالزخارفِ الكتابيَّة. وأكثرُ الغرزِ اليدويَّة الشائعة غرزةُ السلسلة، وغرزةُ النبات، وغرزةُ الفرع، واللقطةُ، الحشو، ورجلُ الغراب، والبذرة. ومن أشهر تقنيَّاتِ التطريزِ في السعوديَّة تطريزُ الخرزِ، وخرزُ الفضَّة، والخرزُ الملوَّن، والتطريزُ باللؤلؤ، والتطريزُ بأزرارِ الصدف، والتطريزُ بالعملاتِ المعدنيَّة، وفيما يخصُّ النسيج، يشتهر نسيجُ السدو، وهو عبارةٌ عن تداخلِ خيوطِ اللحمة العرضيَّة مع خيوطِ السدَّةِ الطوليَّة، وله أنواعٌ حسبَ تشكيلِ نسجه، وهو أسلوبٌ، كان يُستَخدم لنسج الخيمِ والمفارشِ في المنازل، والسيِّدةُ البدويَّة، هي التي كانت تصنعه، أمَّا السيِّدةُ الحضريَّة، فتحبُّ شغلَ التطريزِ، والإبرةِ، والكروشيه، والآجور، وهو تنسيلُ الخيوط، أي تفريغها بفكِّ الخيوطِ العرضيَّة وتطريزها. وهناك قماشٌ، اشتهرت به منطقةُ نجد، وهو القماشُ المتفت، وهو عبارةٌ عن قطعِ أقمشةٍ ملوَّنةٍ مركَّبةٍ إلى جانب بعضها.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط
