طفولة مليئة بالخيال، حيث كانت القراءة نافذتها إلى عوالم سحرية. أول كتاب قرأته كان “ألف ليلة وليلة”، وإن كان بتصرف من ابنة خالتها، حيث كانت تعدّل الأحداث لتناسب عمرها، هذا السحر المبكر للقصص فتح لها باباً على عوالم خيالية في القصص لا حدود لها، وشكّل أساس شغفها بالكتابة، هذا ما تذكرته الكاتبة حصة عبدالله، التي قرأت الكثير من الكتب ولكن قصص ألف ليلة وليلة بقيت معها لفترة طويلة ولها تأثير كبير على ذائقتها الأدبية التي تميل لقصص الخيال والرعب والواقعية السحرية من التراث الإماراتي، بشكل كبير.
في اليوم العالمي لحماية التراث الإنساني، برعاية منظمة اليونسكو ومنظمة التراث العالمي، يحتفل العالم بهذا اليوم 18 أبريل، حاورنا الكاتبة حصة عبدالله، التي تقتبس شخصيات قصصها الخيالية من التراث الشعبي، حفاظاً عليها، ولإعادة سرد أحداثها على الأجيال القادمة، وما أكدته الكاتبة أن الأطفال هم أكثر من ينجذبون إلى هذه القصص الخيالية، حتى المرعبة منها.
حصة عبد الله كاتبة إماراتية، تكتب قصصاً قصيرة في مجال الخيال، والجريمة، والرعب؛ بالإضافة ٕالى الشعر الحر، والخواطر النثرية بثلاث لغات، وهي: العربية، والإنكليزية والأردية، صدرت لها حديثاً مجموعة قصص قصيرة بعنوان "المرأى من المرآة" من منشورات غاف. وصدرت لها مجموعة نصوص نثرية بعنوان "٧ أعوام من الخريف" من دار أوستين مكاولي العالمية، بالإضافة إلى مجموعة قصص قصيرة من دار قنديل كجزء من مشاركتها في دورة القصة القصيرة مع مؤسسة محمد بن راشد للمعرفة.
الشخصيات الخرافية

سبب افتتان حصة بـ “ألف ليلة وليلة” هو ما تحمله من خيال وغموض وأحداث غير متوقعة، وكان ذلك أول مدخل لها إلى عالم القصص الشعبية والأساطير، تتابع قائلة: "لكن لاحقاً، كنت أعود كثيراً إلى كتاب “الفرسان الثلاثة” لما فيه من مغامرات وشجاعة، وكذلك قصص الجريمة المبسّطة للأطفال عن “شارلوك هولمز”، التي آسرتني بطريقة التحليل والتفكير المنطقي. هذه القصص كانت تغذّي خيالي من جهة، وتدربني على الملاحظة والتفكير من جهة أخرى، وقد أثّرت جميعها في تكوين أسلوبي لاحقاً ككاتبة.
عندما انغمست في الكتابة، تألقت الشخصيات الخيالية التراثية في قصص حصة، فهي تبحث عنها بحرفية شغوفة، إذ تقول: "عملية البحث عن الشخصيات الخرافية في التراث الإماراتي تبدأ غالباً من الذاكرة الشفاهية. أستمع إلى القصص المتوارثة التي يرويها كبار السن، والتي كثيراً ما تحمل أسماء شخصيات غريبة أو أفعال غير مألوفة، وهذا ما يثير فضولي. مثلاً، عند سماعي المتكرر لشخصية “العبد المزنجل”، بدأت أتساءل عن خلفيتها، هل هي مجرد خرافة أم أنها تستند إلى شخصية حقيقية عاشت مأساة في زمن ما؟ ومن هنا بدأت رحلة البحث، التي قادتني إلى مصادر موثوقة وموثّقة".
القصص التراثية

في هذا السياق، تلعب المؤسسات الثقافية في الإمارات دوراً كبيراً ومهماً جداً. من أبرزها معهد الشارقة للتراث، الذي يُعدّ من أكثر الجهات اهتماماً بتوثيق التراث الشفهي، ولديهم إصدارات متخصصة توثّق شخصيات شعبية وقصصاً تراثية من مختلف مناطق الإمارات. كما أصدر المعهد موسوعة الكائنات الخرافية في التراث الإماراتي من تأليف الدكتور عبدالعزيز المسلم، وهي مرجع غني يقدّم توصيفاً وتحليلاً لعشرات الشخصيات الخرافية، تعلّق حصة: "أيضاً، المجلس الإماراتي لكتب اليافعين يدعم نشر القصص التراثية بصيغ معاصرة ويشجع على إعادة تقديم الشخصيات التراثية بلغة وأساليب تناسب الأطفال اليوم. كل هذه المصادر تُسهم في بناء قاعدة معرفية موثوقة أستند إليها، وأقوم بعدها بإعادة صياغة الشخصية بأسلوبي الخاص، مع مراعاة أن أُحافظ على روحها الأصلية، ولكن أُقرّبها من عالم الطفل المعاصر".
أحب العوالم التي تشعر الطفل أن الخيال يمكن أن يختبئ خلف باب مغلق، أو داخل صندوق قديم في بيت الجدة
المزج بين العجائبي والواقعي

تحب حصة العوالم التي تتيح لها مساحة كبيرة للخيال، لكنها في الوقت نفسه تحمل جذوراً مألوفة أو صلة ما بالواقع. ولا تفضّل الحصر في بيئة واحدة مثل الغابة أو المدينة تحت البحر، بل أحب المزج بين العجائبي والواقعي، بين ما يمكن تصديقه وما يدفع الطفل للتساؤل. تستدرك قائلة: "أحياناً أبدأ من مكان بسيط كقرية إماراتية قديمة، ثم أُدخل إليها عنصراً خيالياً مثل كائن يتسلّل من الظلام، أو طريق لا يظهر إلا في الليل، فتتكوّن عوالم سحرية متداخلة، تنبع من الأرض التي نعرفها، لكنها تنفتح على الخيال. ما يشدّني هو بناء عالم يكون امتداداً لبيئتنا الإماراتية، لكنه لا يكتفي بالماضي أو بالنوستالجيا، بل يملك طاقته الخاصة للسحر والمفاجأة. أحب العوالم التي تشعر الطفل أن الخيال يمكن أن يختبئ خلف الأشياء اليومية: خلف باب مغلق، أو داخل صندوق قديم في بيت الجدة، هذا النوع من العوالم يُتيح لي تضمين عناصر تراثية بطريقة غير مباشرة، حيث يصبح الخيال وسيلة لإحياء الذاكرة الشعبية، وفي الوقت نفسه يجعل الطفل يعيد التفكير في بيئته ومحيطه، ويؤمن بأن كل ما حوله قد يحمل حكاية لم تُروَ بعد".
أجمل قصص الأساطير للأطفال بين عمر 7 – 9 سنوات
أجعل الشرير يتحول لطيب

تكشف حصة عن أكبر مخاوفها من الشخصيات الخيالية التراثية، وما تتأمله لو أنها قامت بهذا التصرف أو لم تفعله، حيث تقول: "أحياناً، تُقدَّم الشخصيات الخرافية بصورة مرعبة، ما يبعد الأطفال عنها. وأنا أسعى لكسر هذه الصورة النمطية، وتقديم الشخصيات بجوانبها الإنسانية، كما في حالة "العبد المزنجل"، الذي أعيد تقديمه كرمز للظلم والمعاناة، وليس مجرد شخصية مخيفة، فأنا ألتزم بالقصة الخيالية كما رويت عبر الأجيال، ثم أضيف ما يجعلها أقرب للطفل اليوم. أغيّر بعض النهايات، أو أخلق صداقة جديدة، أو أجعل الشرير يتحول لطيب. أعتقد أن القصة يجب أن تتنفس معنا وتعيش عصرنا، فالطفل يرى العالم بطريقة لا نراها نحن الكبار. أستفيد كثيراً من أفكار الأطفال، وأسألهم دائماً: “لو كنت بطل القصة، ماذا ستفعل؟”. أحياناً أدمج خيالهم مع التراث لأخلق شخصية جديدة تمثل العصر وتحتفظ بالجذور".
أعيد صياغة الشخصية بأسلوبي الخاص، و بروحها الأصلية، ولكن أُقرّبها من عالم الطفل المعاصر
مشروع إحياء الشخصيات الخرافية الإماراتية
حدثتنا حصة عن مشروع إحياء الشخصيات الخرافية الإماراتية، الذي وُلِد من شغف عميق بالتراث الشعبي، ورغبة حقيقية في الحفاظ على الذاكرة الشفاهية التي قد تضيع مع الزمن. تستدرك قائلة: "منذ بداياتي في الكتابة، لاحظت أن أغلب الشخصيات التي يتفاعل معها الطفل العربي اليوم تنتمي لثقافات أجنبية، بينما تراثنا الإماراتي يزخر بكائنات خرافية وشخصيات عجيبة تحمل الكثير من القصص والدلالات التي تستحق أن تُعاد صياغتها وتقديمها بشكل معاصر وجاذب.
أردت من خلال هذا المشروع أن أقدّم هذه الشخصيات، مثل “العبد المزنجل”، و”سلامة وبناتها”، وغيرها، برؤية جديدة تُراعي عقلية الطفل اليوم، وتحوّل الخوف أو الغموض الذي ارتبط بها إلى فضول ورغبة في الاكتشاف. بدأت أبحث في الروايات الشفوية، وفي إصدارات مثل موسوعة الكائنات الخرافية في التراث الإماراتي، وأيضاً من خلال الاستماع إلى كبار السن، ومحاولة فهم خلفيات تلك القصص ودوافعها المجتمعية. لكن هذا المشروع لم يقتصر فقط على الشخصيات الخرافية. فخلال زيارتي إلى متحف المرأة في دبي، وقعت على مجموعة من الوثائق البريطانية القديمة، التي كانت تتحدث عن دخول البريطانيين إلى منطقة رأس الخيمة. هذه الوثائق ألهمتني لكتابة قصة مختلفة تماماً، استندت فيها إلى لحظة تاريخية حقيقية، وهي أول ليلة دخل فيها البريطانيون الإمارات عبر رأس الخيمة. لكنني لم أكتبها من وجهة نظر المؤرخ أو السياسي، بل من خلال عين طفل نجا من المجزرة. هذا الطفل يرى ما حدث من خلال عدسة الخيال، ويُصوّر المجزرة على هيئة طائر “أم رخيش”، وهو طائر معروف في تراثنا بأنه يعيش على الجيف والفطائس، ويتشاءم الناس من رؤيته. فكان الطائر رمزاُ بصرياً قوياً للموت والدمار، وفي الوقت نفسه تعبيراً عن الحالة النفسية للطفل، الذي لم يستوعب ما حدث إلا من خلال الخيال.
هذا المزج بين الوثيقة التاريخية والرمز الخرافي والخيال الطفولي، هو جوهر مشروع حصة، وقد أعادت فيه قراءة تراثنا وحكاياتنا وماضينا بلغة أدبية معاصرة، تمكّن الطفل من الفهم، والتخيّل، وربما تعيد النظر في تاريخه الشخصي والجماعي.
4 قصص خرافية من الأساطير اليونانية للأطفال
الذكاء الاصطناعي وقصص الخيال

تستفيد الكاتبة حصة من التكنولوجيا في إبداع شخصياتها الخيالية لتكون قريبة من الأطفال، فالتكنولوجيا، كما ترى اليوم هي وسيلتنا الأساسية للدخول إلى عالم الطفل المعاصر، تستطرد قائلة: "يمكن تحويل الشخصيات إلى تطبيقات، رسوم متحركة، أو ألعاب تفاعلية تجعل الطفل يتفاعل معها ويتعلم من خلالها بطريقة ممتعة. والأجمل أن وجود وسائل الذكاء الاصطناعي يساعدنا على تخليد هذه الشخصيات بصرياً أيضاً، من خلال إنشاء تصاميم دقيقة تعبّر عن شكل الشخصية وحركاتها وتفاصيلها كما نتخيلها، وهذا يفتح لنا آفاقاً جديدة لتقديمها بشكل مبتكر وجاذب للجيل الجديد".
تتابع حصة القصص الخيالية في الوطن العربي، وتراجع منها القصص المغربية والعراقية والمصرية فهي مليئة بالكنوز. تحب أن تقرأ كيف يتعاملون مع الخيال، وتجد نفسها أحياناً تربط بين شخصيات من الخليج وأخرى من الشام، فكلنا برأيها نملك جذوراً متشابهة رغم اختلاف البيئة.
شخصية “العبد المزنجل”

بعض القصص الخيالية تخيف الآخرين، والمخيف فيها ليس ما تحمله من خيال، بل إمكانية تحريفها، وطرح تساؤلات حول ما إذا كانت مستندة إلى وقائع حقيقية. في موسوعة الكائنات الخرافية في التراث الإماراتي للدكتور عبدالعزيز المسلم، وردت رواية نقلها عن إحدى نساء الإمارات حول شخصية “العبد المزنجل”، أشارت فيها إلى احتمال أنه لم يكن مخلوقاً خرافياً، بل إنساناً حقيقياً تعرّض لأبشع أنواع العذاب من سيّده، حتى فقد عقله، وبدأ يتصرف بشكل مضطرب نفسياً وعقلياً وجسدياً، تتابع حصة: "هذا الطرح يعيد تشكيل نظرتنا لهذه الشخصية، ويطرح تساؤلات حول مدى حقيقة ما وصلنا من القصص الشعبية. فالنخيل في القصة، وتصرفات “العبد المزنجل”، يمكن قراءتها كرموز لمعاناة إنسانية تم تصويرها لاحقاً في إطار خرافي. لقد تحوّل إلى شخصية تعيش بين الواقع والخيال، تحمل أبعاداً نفسية واجتماعية عميقة.
وهذا يدفعني للتساؤل: هل هناك شخصيات أخرى مثل “سلامة وبناتها” يمكن أن تكون مستندة إلى وقائع حقيقية؟ ربما نحن لا نملك إجابة واضحة، لكن هذا التداخل بين الحقيقة والأسطورة هو ما يجعل التعامل مع هذه القصص مليئاً بالفضول، خاصة حين نعيد تقديمها للأطفال بأسلوب يحترم التراث ويحفّز التفكير دون إخافة.
مهرجان الإمارات للآداب
للكاتبة حصة تجربة فريدة في مهرجان الإمارات للآداب هذا العام كانت غنية وملهمة بكل المقاييس، كما قالت وعلّقت: "مهرجان الإمارات للآداب أتاح لي فرصة ثمينة للقاء جمهور متنوع من القرّاء والمهتمين بالأدب، كما جمعتني الحوارات مع كُتّاب وفنانين من خلفيات مختلفة، مما أضاف إلى تجربتي أبعاداً جديدة من التبادل الثقافي. كانت الجلسات مليئة بالحيوية، والأسئلة التي طرحها الأطفال تحديداً فتحت أمامي نوافذ جديدة للتفكير والكتابة.
أجمل ما في المهرجان هو الروح التي يحملها: روح الاحتفاء بالكلمة، وبالخيال، وبالقصص التي توحدنا وتفتح أمامنا أبواباً لفهم ذواتنا وهويتنا. المشاركة فيه كانت دفعة قوية لمواصلة مشروعي في إعادة تقديم التراث الإماراتي بروح معاصرة وجذابة للأطفال واليافعين".