مع نسمات المساء اللطيفة، ورائحة الأرض المشبعة بعبق زيزفون ونرجس وأقحوان، وزهور تتسابق لولادة الجمال والسحر، وتتبارى بالعطاء في هذه الطبيعة الكريمة.. وصلت من مدينة ميلانو الإيطالية إلى قرية Cerro Piacenza التي تختفي بيوتها بين الأشجار الكثيفة الباسقة والمساحات الخضراء، وعلى طرفها القصي، برز ذاك المكان الذي أقصده فندق "Locanda del Re Guerriero"، الذي أنشىء في مكان بيت قديم يعود إلى القرن السابع عشر، وبجواره قلعة من التاريخ نفسه، وكليهما في غابة ظليلة على مساحة شاسعة من الخضرة، تزينها تماثيل ضخمة لأشكال غريبة وخيول جامحة أو كراسي عملاقة..
مرت عدة ساعات جبت فيها المكان وتعرفت إلى تفاصيل أرجائه، وفي بدايات المساء ساهرت القمر، وبعدها كانت حوارية الليل بين النوم وأصوات طقطقة الخشب العتيق التي تشكل كل ركن من الغرفة.. ولم يكن أمام هذه الرهبة الخفية، سوى أن أستحضر وجه الحبيبة من وراء البحار البعيدة والجبال القصية، لتؤنس وحدتي وتدفئ روحي.
الجميل في الفندق الصغير أن امرأتين تدعيان "كاتيا، وكريستينا" وحدهما تديران وتخدمان المكان، ومع ذلك فإنه غاية في النظافة والجمال.
هما امرأتان غاية في الدماثة، ترتديان الجينز وتقومان بالأعمال المطلوبة كلها.. تستيقظان مع خيوط الفجر الأولى لتبدآ مشوارهما اليومي في العمل، فتحضران الفطور الشهي للنزلاء، ومن بعدها يبدأ ترتيب الغرف وتنظيفها، وتلبية طلبات كل الموجودين، قبل أن يبدأ تحضير الغداء وبأصناف شتى.. المدهش أن هاتين المرأتين لا تكلان من العمل على مدى أكثر من أربع عشرة ساعة في اليوم.. ولا تتقاضيان سوى السعر المحدد والذي يناسب أصحاب الدخل المحدود.
تلك الطاقة الغريبة التي تتمتعان بها، أثارت تساؤلاتي التي توجهت بها إليهما، فكان الجواب: نحن نستمد قوتنا من الطبيعة البكر.. فكلما شاهدنا وردة تتفتح، زادت طاقتنا، ودفعتنا لمزيد من العمل.. نحن لا نهمل أي زهرة في المكان إلا ونعتني بها.. إنها نسغ الحياة الذي ينقي روحينا ويمنحنا الدافع للعطاء والعمل، وتوحدنا مع الطبيعة أكثر.
على الرغم من إقامتي هناك ورؤية الجهد الذي تبذلانه، للحفاظ على كل شيء نظيفاً ومرتباً.. بقيت غير مصدق أن امرأتين ناحلتين تستطيعان أن تديرا فندقاً بهذا الحجم والمساحة.. فهل نتعلم منهما قليلاً من الإخلاص للعمل وعشق الطبيعة؟.