تحت حرارة الشمس الحارقة، وفوق ذلك الشارع الملتهب وقسوة هذه الأرض، لم يسعف الصغير حذاؤه الرقيق، أو يحميه من الحرارة، لكن العزيمة قوية، والهدف أمام عينيه بدا واضحاً؛ فهو طريق اعتاد سلوكه؛ بل مهنة أصبح بها خبيراً، من أهل الخبرة فيها؛ حتى أن شعوره بالدوار الذي كانت تسببه ضربة الشمس، خف تدريجياً مع الوقت.
كثرة العرق المتصبب على جبينه والمتدفق من جسده كله، بات يشعره وكأنه إسفنجة تخرج بغزارة كل الماء من داخلها، مهدد بأن يجف ويموت.
تخيل نفسه كذلك، هو لم يتجاوز تسع سنوات، حجمه الصغير يقول ذلك، لكن عقله يوحي بأنه تجاوز العشرين عاماً!
باتت إشارة المرور صديقته التي تشاكسه أحياناً، وترحم حاله أحياناً أخرى، لكنها تورطه في بعض الحالات؛ فغفلة منه قد تودي بحياته، مناديل ورقية يقطع بها الشارع، يحوم بها حول السيارات بعين البائس البارد، يستدر عطفهم، فباتت مشاعره أحياناً كمومياء ميتة.
هل من اعتاد البؤس وتكيف معه، الحال عنده سيان؟!!
وجه أمه المريضة ووالده المدمن وإخوته الذين توزعوا في أنحاء الشوارع، صورة تتكرر كثيراً بأشكال مختلفة كحاله، يستدرون عطف الناس بطريقة أو بأخرى.
بدأت السيارات بالتحرك، وبدأ صغيرنا يركض بسرعة متجنباً إياها؛ متجهاً إلى الرصيف، تسببت حركته السريعة بقطع فردة حذائه الرقيق الأيسر، نظر إليه الفتى وحمله بيده، من شدة تعبه بدأ يهذي ويضحك على حاله.
يضحك ويضحك.
ولم يعلم أن ضحكاته التعيسة من قلبه المحمل بالهموم، لن تستدر عطف الناس، ولن يبيع هذه المرة أي شي؛ لأن من يضحك عند الناس فهو سعيد في نظرهم، إذن هو مخادع في نظر الأغلبية الذين جاء بهم القدر إلى هذا الشارع.
عاد بسرعة إلى مكانه «على الرصيف»، يترقب الإشارة، ينتظرها أن تختار اللون الأحمر، لونه المفضل.
على الأقل في هذا المكان، الأحمر فرصة للكسب، وبالتالي فرصة أن يأكل، وفرصة للتقليل من الضرب المبرح إن وقع تحت يد والده ولم يكن لديه المال الكافي، إذن فرصة للنجاة وباب للسعادة!
سمع هدير طائرة تمر فوقهم، نظر إليها مبتهجاً، هو كغيره يحلم ولديه أمنية يود تحقيقها إذا غدا رجلاً.
توقفت السيارات لتبدأ رحلته سريعاً وفكره مشغول بأحلامه، يتمنى أن يصبح طياراً، يريد أن يرى العالم، أن يرحل بعيداً عن هذه الأرض، وهذه الشمس التي لم ترحم طفولته، تخيل نفسه يلبس قبعة «القبطان»، ويطير عالياً في «السماء»، «يا إلهي، سأقترب من الشمس، وأنا كنت أفكر في الهروب منها»!!
نظر عالياً، ابتسم وأصبح غريق أحلامه، تغير لون الإشارة ولم يتحرك الصغير، طار هذه المرة عندما ارتطمت به سيارة كان يقودها شاب مسرع، طار وطارت مناديله معه وأحلامه معه. تجمع حوله الناس. حملوه. رحل الصغير في صمت!!!
وآخر عهده في هذه الدنيا، حلم وابتسامة، وفي اليوم التالي صديق جديد للإشارة!
قراء سيدتي: صديق الإشارة والأحلام الطائرة
- ثقافة وفنون
- سيدتي - سارة يعقوب السراء
- 10 ديسمبر 2014