«ليه تبعدي؟»

تلك الأغنية التي ربما كتبتها وأنا في الثلاثين.. (لا تتعجبي. كنت يومًا في الثلاثين).. «وليه تبعدي؟»

كنت نسيتها تمامًا. لا أدري لماذا كُتبت؟ ولمن؟ هل كانت أغنية لسوق الكاسيت؟ أم همسًا روحيًا للورق من كاتب هاوٍ؟ نسيت كل هذا لأني نسيت أيضًا هويتي بالتحديد: هل أنا -مثلاً- شاعر؟ أم بائع مناديل ورقية يهوى كتابة الأغاني حتى البكاء؟ كل ما أعرفه أن هذا خطي، نعم خطي؛ لأني وجدت في الحجرة أوراقًا كثيرة بنفس الخط.

لكن من المستبعد أني بائع مناديل ورقية، أو بائع من أي نوع؛ لأني وجدت عندي في الحجرة كتبًا كثيرة، بعضها وجدت عليها اسمي.

نعم، هذا اسمها؛ لأني وجدته على أوراق كثيرة هنا، منها شخصي ومنها رسمي و... «وليه تبعدي؟»

كأنك هجرتي المكان من سبيل العناد

كأنك بتستمتعي بالبعاد

عشان عارفة إني بحبك بتتبغددي

من هذه الياء- التأنيث المشار إليها؟ هل هي مجرد كليشيه شائع في الأغاني، مجرد ياء تأنيث بلا معنى؟ أم أن هذه الأغنية مكتوبة لامرأة ما؟ امرأة حقيقية؟

طفت المكان أبحث عن أي أثر لامرأة. وجدت دولابًا خاليًا، كيانًا من الخشب البني المحروق المهجور، سريرًا واسعًا يتسع لاثنين، لم يتكرمش منه إلا ما ينم على وجود وحيد، المطبخ يخلو من أي لمسة يمكن أن تعد أنثوية: لا مريلة ترتديها المرأة عند غسيل الصحون، لا قطعة صابون طرية، لا رائحة طعام، الثلاجة: خزانة فارغة من الحديد المتجلد...

لم أطق، تركت المطبخ... الغبار متراكم على صور البهو، على المرايا والطاولات، على شاشة التليفزيون. أخيرًا رأيت وجه امرأة.

أزحت الغبار عن الوجه. إنها تشبهني. لكنّ عينيها أقتم حزنًا. الليل يكسو بدرًا بشعر حالك الجمال، وناعم الأهوال، العينان تكثيفان لليلتين صيفيتين بلا قمر ولا نجوم، الشفتان متوترتان- لماذا؟ هل قررت الرحيل؟

بعدتي ليه/ زودتي ليه شجن الوجود/ في ملك مش عايز يجود/ مش كنتي أنس الروح وإلفي ومُسعدي؟ ليه تبعدي..

الورقة نفسها صفراء، وعليها أثر حذاء. وجدتها تحت كرسي وثير. يبدو أنها كانت تجلس عليه.. ترتاح إليه؛ لأني وجدت حوله مجلات نسائية وغراميات للجيب، وصور أطفال عراة رضّع.

انتبهت إلى أني لم أجد ما يدل على أن طفلاً عاش ذات يوم في هذا البيت، لا لعبة قديمة. لا دبَّ مهترئ أو عروسة مخلوعة العينين. لا شيء. ولا حتى صندل نونو لونه أحمر باهت بفعل الزمان.

هل حملته ومضت؟ أم أنه لم يوجد قط؟ أسرعت إلى المرآة؛ لأتأكد من وجودي أنا على الأقل. أزحت الغبار. رأيت نفس الوجه الذي رأيته منذ يومين: الليل الحزين. الشعر الأبيض. لكن ليل العينين اختلف قليلاً.. فقد صار يحيطه هالة من الشفق.

أم أنا الذي أحيط نفسي بهالة من الشفقة؟

ليه تبعدي؟ [هكذا تنتهي الأغنية]

هو احنا مش كنا ابتدينا سوا

كأننا صباعين.. وسطى وسبابة

مهما افترقنا نبتعد قيراطين

إزاي قدرتي تخرجي من إيدي

تنهي وجودنا ومن جديد تبتدي؟