أثناء زيارتي إلى باريس منذ عامين أهداني الصديق محمد المطالسي خبير الموسيقى العربية، المغربي الأصل، مجموعة اسطوانات حديثة لفرق موسيقية من مختلف أنحاء العالم العربي، من بينها فرقة مصرية، بورسعيدية، كان اسمها يتردد أحياناً على سمعي في مناسبات لا أذكرها الآن، اسمها «الطنبورة».
الطنبورة آلة موسيقية قديمة مرسومة على جدران المعابد والمقابر المصرية القديمة، ولها شبيه في الآلات الموسيقية العربية، خاصة في اليمن، أو الهند، إنها آلة وترية لها قاعدة خشبية ترتكز إلى صدر العازف، تنطلق منها عدة أوتار، تتصل بما يشبه القوس المنحني، إنها صورة مكبرة من السمسمية، غير أن السمسمية أصغر حجماً، ولها أشكال مختلفة، لكنها متوحدة في المضمون، فهي آلة وترية منتشرة في مدن قناة السويس الثلاث: بورسعيد، الإسماعيلية، والسويس، وترجع علاقتي بالسمسمية إلى الستينيات، عندما استمعت إلى أغانيها وموسيقاها في السويس، كنت في ذلك الوقت أعمل مراسلاً حربياً لجريدة الأخبار، أقضي معظم أيامي في جبهة القتال، لأتابع معارك حرب الاستنزاف ضد العدو الإسرائيلي، غير أن الهدف الأعمق كان إعادة التوازن إلى النفس بعد هزيمة يونيو المروعة، في تلك الفترة اكتشفت الكابتن غزالي، أحد رموز المقاومة في السويس، كان الكابتن أحد أبناء المدينة الذين رفضوا الهجرة منها، وبقي فيها، لم يكن لغزالي في السويس إلا أرضها، وتاريخها، وسماؤها، وأيامه التي أمضاها في دروبها، ومازال يسعى أطال الله عمره. كان غزالي فناناً يمارس كتابة الخط العربي ومازال، غير أنه سرعان ما بدأ يستجيب للظروف التي ترتبت على الهزيمة، شكل فرقة من أبناء المدينة، معظمهم من العمال وصغار الموظفين، سماها «أولاد الأرض»، وكان كل منهم حافظاً ملماً بالتراث الغنائي والفني للسويس، أغاني السمسمية، ومقطوعات غنائية تتخللها مواقف تمثيلية فيها مواقف ساخرة، ورؤية غريبة للحياة، مزيج من صوفية، وإحساس إيماني عميق، وإدراك مأساوي لحقائق الحياة، شكل فريد من الغناء الشعبي الأصيل، طبعاً اشتهرت أغاني الكابتن غزالي الوطنية وذاعت، كانت أغاني تحض على الصمود وعلى النضال، وكان يتنقل مع رجال الفرقة من موقع إلى آخر، على الخط الأمامي للجبهة ينشدون ما سأسمعه فيما بعد ويهز وجداني من فرقة الطنبورة البورسعيدية، كان الوصول إلى خنادق قواتنا المسلحة المطلة على المياه في تلك الأيام مخاطرة،
لم يكن يفصلنا عن العدو وقتئذ إلا عرض القناة فقط، وكان موقع العدو الطوبغرافي متميزاً، حيث إن ردم الحفر الناتج عن قناة السويس كان يلقى ناحية الشرق، فأصبحت الضفة الشرقية أعلى، مشرفة على الغربية، وعندما وصل العدو إلى الضفة الشرقية مكملاً احتلاله لسيناء زاد من ارتفاع الأرض ببناء خط بارليف الأول، ثم الثاني الذي كان أشد تحصينا وأقوى، وهو الذي اقتحمته القوات المسلحة المصرية في أكتوبر عام 1973.
كانت فرقة أولاد الأرض في السويس تنتقل من موقع إلى موقع، وتغني وتعزف للجنود، والضباط، وتحيي المناسبات الصغيرة التي تخص من تبقوا في المدينة العريقة التي قصفها العدو بوحشية على امتداد ثلاث سنوات من حرب الاستنزاف، وحاول احتلالها في أكتوبر لكن الرجال صدوه عنها في معركة شهيرة.
في إحدى الليالي عدت من موقع متقدم في الجبهة بصحبة صديقي وأخي رفيق تلك السنوات الفنان المصور مكرم جاد الكريم، كنا ننام في أي مكان بصحبة أهالي المدينة، مرة في بدروم مبنى المحافظة، ومرة في فندق بلير الوحيد الذي كان مفتوحاً في المدينة، أو في أي بيت سويسي يقيم به أحد الأصدقاء، وكنا نغلق العيون ونروح في النوم ونحن لا نعرف إذا كنا سنرى شمس اليوم التالي أم لا، كان القصف الوحشي بالمدفعية والطيران وكافة الأسلحة.
في ليلة اتصلت فيها الغارات، أخبرني الكابتن غزالي أن ثمة حفلاً صغيراً ستحييه الفرقة بمناسبة شفاء عم حسن السوداني -رحمه الله- بائع الصحف، دخلنا إلى الطابق الأول في عمارة قديمة، كان عم حسن يقيم فيها، مسكن من ناحية ومخبأ من ناحية، وكان قد أعد وجبة عشاء فاخرة ملأت طشت غسيل ضخم، أكلة كشري فاخرة لم أشم مثل رائحتها ومازال طعمها في فمي، أحياناً تكون الوجبة جزءاً من مشاعر القوم عندما تكون الظروف صعبة تتطلب التضامن والتقارب الأخوي.للتفاعل مع الكاتب [email protected]