لماذا قال الشاعر الإنجليزي - الأمريكي الأصل- ت.س. إليوت في مطلع قصيدته الشهيرة «الأرض الخراب»:
«أبريل أقسى الشهور»؟
هو يرد على تساؤلنا هذا في السطور التالية:
فهو يُنبت الليلكَ من الأرض الميتة
ويمزج الذكرى بالرغبة
ويحرك الجذورَ البليدة بمطر الربيع.
وهو تبرير غريب، وتدليل عجيب على أن أبريل أقسى الشهور، فإن إحياء الجذور وإخراج الزهور وبعث الأرض الميتة يصلح دليلًا- على الأقل للوهلة الأولى- على العكس تمامًا، فلو كان قد قال «أبريل أجمل الشهور»، لكانت السطور التالية «من السطر الثاني للرابع» أكثر انطباقًا.
قلت «للوهلة الأولى»؛ لأن المتأمل في تلك السطور، خاصة في ضوء السطور التالية، يتسلل إلى باطن معنى الشاعر: أن صحوة المشاعر في الربيع قاسية والحب قاس.
والدليل على ذلك ما قاله في السطور الثلاثة التالية:
لقد دفأنا الشتاء
حين غطى الأرض بجليد النسيان.
وغذى قليلًا من الحياة بعيدان جافة.
إذن فمطلع هذه القصيدة يتحدث عن قسوة انبعاث الحياة والعاطفة في الربيع، وبالذات الحب.
وبالعكس شاعر آخر هو صلاح جاهين في رباعياته يفرح بالربيع ويحتفل به، حين يقول:
مرحب ربيع مرحب ربيع مرحبًا
يا طفل ياللي في دمي ناغي وحبا
علشان عيونك يا صُغنَّن هويت
حتى ديدان الأرض والأغربة
عجبي!!
وتارة يمتزج الحب بالحزن، حين يشعر صاحب الرباعيات بأنه ليس جزءًا من مهرجان الربيع، بل مازال ينتمي للخريف والشتاء، لم ينبعث مع باقي الكائنات والقلوب:
تسلم يا غصن الخوخ يا عود الحطب
ييجي الربيع تطلع زهورك عجب
وأنا ليه بيمضي ربيع وييجي ربيع
ولسه برضك قلبي حتة خشب
عجبي!!
وقديمًا احتفل البحتري الشاعر العربي القديم بمقدم الربيع وهنأ قارئه به، أو هنأ نفسه ربما، وذلك حين قال في مطلع إحدى قصائده:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا
من الحسن، حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدُّجى
أوائل ورد كن بالأمس نوما
والنيروز هو شهر بداية الربيع في التقويم الفارسي، والغسق هو الظلمة الشفافة بين المغرب والعشاء.
ويستطرد البحتري واضعًا تفتح البراعم المقفلة.
(أوائل ورد كن بالأمس نومًا) فيقول:
يفتِّقها برد الندى فكأنه
يبثُ حديثًا كان قبلُ مكتَّما
ثم يمضي يصف بعض مظاهر الربيع الأخرى – اخضرار الأشجار ورقة النسيم – فيبدع في الرسم والتصوير:
ومن شجر ردَّ الربيع لباسه
عليه، كما نشرت وشيًا منمنما
ورقَّ نسيم الريح حتى حسبته
يجيء بأنفاس الأحبة نُعَّمَا
فانظري جمال هذه الصور: إن الربيع للشجر خضرته (لباسه) الذي كان قد خلصه وطيَّره الخريف ثم الشتاء، ولكن تلك الخضرة (أو ذلك اللباس) مزخرف (موشَّى) بنقوش منمنمة هي الزهور التي تطلع بالمئات من قلب الشجرة، أو ثوبها، الأخضر!
ومن شعراء منتصف القرن العشرين، الذين استقبلوا ربيع إحدى سنوات شبابهم بقصيدة، الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، حين جاءه ذلك الربيع وهو بلا مال ولا حبيبة، محروم من حق الانضمام لزمرة الربيع الدافئة الهانئة.
اسم القصيدة «ليس أنا»، وهو اسم يوحي بالبُعد الاجتماعي لظاهرة الحزن الربيع والشعور بالحرمان من بهجة مهرجانه:
اخضرت الأشجار
واحمرت الأزهار فوق خضرة الأسوار
وجاءنا ريح من الصحراء حار
وعرَّت البنت ذراعها
فبصَّت العيون من تحت الجفون
وارتعشت أهدابها
ثم تراخت في انكسار
>>>
وأقبلت سيارة تمشي على مهل
مذياعها مازال يشتكي الهوى
أما أنا.. فكنت أشكو الجوع
في مطلع الربيع!
للتواصل مع الكاتب بهاء جاهين [email protected]