أنا الحقيقة النهائية
كان يجلس في جلباب ممزق على رصيف ميدان مزدحم مليء بالآثار الإسلامية التي بدأت الشروخ تزحف في صفحتها الصفراء الباهتة، وآثار المجد التليد تتعانق فيها مع تجاعيد الحاضر الذي يعاني من الشيخوخة. كان يجلس ويردد من حين لآخر هذه الجملة التي لا تتناسب مع هيئته الرثة: أنا الحقيقة النهائية.
أنا الحقيقة اللانهائية.. أنا الوجود في أقصى تموْجُدِه.
قالها وانحنى على قدمه اليمنى يهرش صفحتها الخشنة، المفلطحة كخف الجمل، ثم استوى قاعدًا ليدب يمينه في ظهره تحت ما تبقى له من جلباب هارشًا منه ما تسنى له أن يهرشه.. ثم انطلق... هو بالتأكيد جنون مطلق:
الأشياء تأتمر بأمري.. حين أقول للكباية (الكوب) تعالي يا كباية، وتأتي وتمنحني نفسها بأدب واحترام، وفي دلال أنثوي أيضًا.
كان يكلم نفسه، ولكن العبارة الأخيرة حول دلال الأنثى قالها لرجل كان يعبر الرصيف من الشارع ساحبًا أنثاه إلى مكتبة تبيع الكتب الدينية. زام الملتحي نحوه في شراسة، لكنه تركه وذهب، بعد أن فسر الأمر في عقله أن الرجل مجنون لا شك. كل هذا والفيلسوف ذاهل تمامًا عن أي رد فعل لما قال، ويقول:
تأتمر بأمري الأشياء والكائنات تكون بكوني. مثلاً أي بطيخة مهما كانت حمراء أو قرعاء هي أنا، أنا بجلالة بطني، قالها وخبط برضا عجيب على بطنه الضامر الخاوي الذي لا يعرف البطيخ ولا غيره منذ زمان. فإذا كان كل البطيخ أنا، فما حاجتي إليه؟ وما حاجتي إلى الخروف المشوي، وكل ما عليه صوف أو له وبر وهو أنا. أنا هذه المرأة الجميلة، فكل جمالها إذن لي؛ لأنه أنا وأنا هذا الشرطي وكل من علاه رتبة في جهاز الشرطة.
كان يشير بعظمة للشرطي بعد أن وضع قدمه الحافية المتسخة اليمنى على ركبته اليسرى، وهزها هزًا منغمًا هو خلاصة الطرب.
لمحه الشرطي العملاق وهو يفعلها فاقترب منه بهدوء ينذر بعاصفة ترابية:
نعم يا ابن الـ...
ثم أقامه ونفضه في الأرض وأقامه ونفضه في الأرض، والرجل لا يكف عن الكلام، وكأن ما يحدث له يحدث للرصيف أو لبدن آخر غير بدنه:
جهاز الشرطة كله مجرد تفصيلة من تفاصيلي، مثله مثل العنب البناتي، والبنات اللاتي في حلاوة العنب.. أي! «قالها بحياد وبرود».. أي! «قالها بحياد أقل برودًا».. أي ي ي ي يي ي يي ي ي «قالها وهو يضحك».. الشرطة والنجوم والضفادع ومصلحة الأحوال الجوية.. ها ها ها ها ها..
«ضحك والدموع تسيل من عينيه»
أنا بحمد الله خلاصة الأشياء، أو –كما يقول العامة- أنا رجل خلاصة.
تعب الشرطي فرماه، وأعاد الرجل الواصل لمّ نفسه وبدنه المبعثر بآلية، وكأن شيئًا لم يحدث، ولم لا، والرجل يتحدث في عموميات الكون وجوهر الوجود ومكنون الأشياء؟ ما أهمية أن طُحن جسده منذ دقائق طحنًا لو تعرض له تل المقطم المشرف على القاهرة لاختل وانهد على رأس ملايينها العشرين؟ طبعًا كل هذه سفاسف، فالرجل المتأمل ما زال يتأمل أصل الأشياء الواحد وينسبه إلى نفسه.
عندك مثلاً الفول السوداني، والفول الأخضر، والفول النابت والفول المدمس، حتى فول الصويا.. كله فول.. وأنا اسمي «فولان الفولاني» من الفول.. إذن فكل الفول تبعي، وبما أن المصريين عرب فالعرب كلهم تبعي، وبما أن العرب ناس فالناس جميعًا ملك يميني...
قالها وفي حجره ارتمى رغيف مليء بالفول النابت.