بعض الفلاسفة ـ من المتصوفين بالذات ـ يعتقدون أن الزمن حاضر أبدي بلا ماضٍ ولا مستقبل. وهي فكرة عويصة كما ترين يجتهدون في إثباتها ويبدعون في ذلك، لكنها تظل مستغلقة وعويصة على عقل عامي عادي، أتشرف بأني أمتلك واحدا من نوعه. ولذلك فللعاديين أمثالي يظل الحاضر هو عربة الدرجة الأولى في قطار الزمن, ويظل الماضي عربة الدرجة الثانية والمستقبل هو القاطرة التي تجرهما نحو غاية لا يعلمها إلا الله، أما نحن فلا نعلم إلا المحطة القادمة, أو المحطة بعد القادمة على الأكثر.
وهناك صور أخرى أكثر كوميدية للزمن: الحاضر هو يدنا نصف المرفوعة نحو الفم ممسكة بمعلقة فيها أرز –مثلا-؛ والماضي هو يدنا وهي تغوص بالملعقة في تل الأرز, والمستقبل يبدأ بدخول الملعقة الفم، ثم المضغ والبلع والهضم, عند البلع يصير المضغ ماضيا والهضم مستقبلا طي الغيب (البطن)، كل هذا يحدث في ثوان, يتناوب الحاضر والماضي والمستقبل على ملعقة الأرز بسرعة جنونية, إذا قيست بماضي وحاضر ومستقبل الإنسانية, أو حتى ماضي وحاضر ومستقبل وردة أو حشرة أو قصة حب قصيرة.
ويقال أيضا إن الزمن لا وجود له إلا في مركز في المخ يسجل تتالي حركات الأشياء، ويجد حتى في الصمت والثبات حركة غير محسوسة هي الماضي والحاضر والمستقبل.
وهذا أيضا كلام فلسفي صعب وعويص وعصي على الفهم. يكفيني أنا وأقترح عليكِ أن تكوني مثلي بسيطة بلا ميول فلسفية يكفيني أن أرى العقرب القصير في ساعتي الآن على رقم (2) والطويل على (6) لأعلم أن هذا الحاضر, على الأقل لمدة دقيقة، بعدها يبدأ المستقبل, وأن الماضي كان هنا من دقيقتين ومضى لا أعلم إلى أين، ولا أهتم.
وأحيانا يمتد الوجود أفقيا في عراء عريض شاسع ممتد عرضا بلا حاضر ولا ماضٍ ولا مستقبل. ذلك حين ندور حول أنفسنا, أو حول فكرة تعذبنا. وقد ينعدم الزمن أيضا في حضرة المحبوب, حين يصير امتداد الخضرة إلى مالا نهاية دائرية تحيط بنا من كل ناحية, كأننا في جزيرة من الهناء سكانها اثنان فقط.
وأحيانا يكون الحاضر صيحة مفزعة كجرس المدرسة تعلن عن مستقبل قريب معروف، لكننا لا نألفه أبدا, يظل مخيفا كطابور المدرسة والمارش العسكري على قرع الطبول.
والنوم زمن ولا زمن, قد يستغرق ست ساعات أو ثماني لكننا لا نشعر بمرور هذا الوقت, بل نصحو فجأة على حاضر لم نختره, فالمكان الذي حدث فيه نوم يتخذنا أسرى,على الأقل حتى نفيق، وننتقل بإرادتنا إلى مكان آخر، وهو إن كان زمنا بلا زمن, إلا أنه تقع فيه أحداث، ويقتحمنا خلاله زوار غير مرغوب فيهم في كثير من الأحيان, وقد يمكثون عندنا أسبوعا بينما لا يستغرق الحلم إلا ثواني.
وهذا دليل على نسبة الزمن. مثال آخر على ذلك ما يشعر به مدخنو القنب من أنهم مكثوا في المقعد ساعتين على الأقل, بينما يقول المنبه أمامهم إنه لم تمضِ إلا عشرون دقيقة. وهذا يثبت أن الزمن فعلا هو وظيفة من وظائف المخ لا توجد خارجه إلا في حركات الكواكب حول أنفسها وحول الشمس وانتقال الكائنات من مكان لمكان. فالزمن هو وحدة القياس التي يقيس بها العقل الحركة في المكان.
عدنا إلى الفلسفة. دعينا نكن رومانسيين يا صديقتي, لنقل مثلا:
الزمن بسمة سبقتها نظرة وتلاها سلام فكلام.
كما قال شوقي في بيته المعروف عن الحب:
نظرة فابتسامه فسلام فكلام فموعد فلقاءُ