أنا لا أطمئن إليها، شيء ما في شعاع عينيها، مظلم وسميك كقطعة صغيرة من الحديد الصدئ، لا أطمئن إليها، منذ أن كنا معًا في المدرسة الابتدائية، بل في الحضانة، كانت تحاول الإمساك بيدي، فأشعر بيدها لزجة باردة منفّرة، فأنفض يدي، وأجري مبتعدًا إن كنا في الفناء، أو أتزحزح من جانبها إن كنا في قاعة الدرس.
كنت أحلم بها: مالحة شفتاها، شعرها خشن، عيناها ناعمتان تكشفان فجأة لثامهما عن قهقهة باردة، عن فكرة مجنونة، عن حنان غير منتظر، عن ذهول رمادي كثيف يتجمد، حدقة من حجر.
يداها من مادة صمغية، هما يدا الصبا اللزجتان الباردتان، إلا أنهما اكتسبتا مع تراكم إمساكهما الملح بكل ذراع أو كتف أو يد يمكن أن تطالاها، اكتسبتا خاصية الالتصاق، فمن أمسكتا به صار عاجزًا عن الفكاك منهما.
اليدان في حلمي لا تمسكان بذراعي أو يدي، إنهما تلتفان معًا حول عنقي.
كان لي الحق، كل الحق، ألا أطمئن إليها في اليقظة، فسلوكها في الحلم لا يمكن السكوت عليه، وقد قررت أن أواجهها بذلك.
كنا في ذلك الوقت نعمل في شركة واحدة، وللأسف في نفس الوظيفة، قسم الرسوم الهندسية، وفي نفس حجرة المكتب، بعد الحلم الأخير، وفيه جحظت عيناي أكثر مما يُحتمل وهي تخنقني، خاصمتها فلم أعد أكلمها، وصرت أتجنب النظر إليها ما استطعت، ولاحظت هي ذلك رغم أننا لم تكن تربطنا أية مودة، برغم سني المعرفة الممتدة منذ الطفولة، لاحظت هي ذلك بسهولة؛ لأننا اعتدنا أن نتبادل تحية الصباح وكلمتين عن حالة الجو.
واستمر الحال يومًا فيومين فعشرة، وإذا بها ذات صباح، تمسك يدي في راحتها الباردة العرقى، وقد اندهشت حين أحسست بيدها ترتجف، فجأة قرأت في عينيها فضاءات من الحزن، كل فضاء ألف ليل وليل، كانت شفتاها ترتعشان أيضًا، واستغربت إذ اكتشفت أنهما كورق الورد ناعمتان.
ما هذا الإحساس الجديد كأنه تحية صباح جميل؟ ما الذي يحدث؟ لماذا أطمئن إليها؟ هل تبدلت؟ حقا أراها مختلفة، ولكن لا يمكن أن تتغير ملامحها وملمسها فجأة، أيكون هذا أيضًا حلمًا؟!
أكان نفوري منها هروبًا من شيء بداخلي يريد أن يستجيب، أن يجيب، أكان إلحاحها عليَّ في النوم، هو رغبتي فيها وخوفي منها: من أن أسلّم قلبي لمخلوق؟ هل لأني منذ صباي الأول خانني أبي فمات، وخانتني أمي فتزوجت وهجرتني مهملاً في بيت جدي، تقوقعت وارتديت نفسية القنفذ؟
هل كان الحب الكاسح في عينيها هذه المرة أكثر مما أحتمل، فاستسلمت؟ هل أثارت يدها المرتعشة شفقتي، فجاوبها ارتعاشي الكظيم؟ وهل ارتجفت شفتاي لاهتزاز ورق الورد، وانفجرت فجأة ينابيع الحنان وتوهج الخد وانطفأ الظمأ؟
نعم، أنا لا أطمئن إلا إليها، وكنت إذ أقول العكس أخفي عدم اطمئناني إلى نفسي؛ لأني أعرف أن نفسي سوف تضعف في النهاية، وأنني سأسمح لمخلوق أن يملك مصيري.