المحيط ـ 3 ـ

سان نازير، شمال غرب فرنسا، منذ عامين تسلمت جائزة أفضل كتاب مترجم، مر الوقت، قلت إن حفل تسليم الجائزة كان مؤثرًا، خاصة رئيس لجنة التحكيم، عضو الأكاديمية الفرنسية، تناول نسخة وقرأ على الحاضرين فقرات منها، ثم توجه إليَّ مرددا: رير..رير، لكم بدا مهيبًا، متواضعًا.



يومئ برنارد، يقول:

كان رجلاً رائعًا..

كان؟

رحل سيوبريتيه العام الماضي، كان مريضًا بالسرطان، حركته المتمهلة، إشارة إصبعه، انحناءته تجاهي، ميل رأسه، إمساكه الكتاب الضخم، رير.. رير، رغم أن أخبار الرحيل لم تعد تفاجئني؛ لاعتيادي على الغريب غير المتوقع، إلا أنني فوجئت بقدر ما، هذا إنسان لم ألتقه إلا مقدار وقوفي على خشبة المسرح، وترك عندي أثرًا، لطالما استعدت كلماته، تطلَّعه نحوي، صار من الواردات المباغتة حيثُ لا أتوقع.

مرة أخرى أردد لنفسي باستحالة بقاء الأشياء على ما هي عليه، لو غبت ساعة عن موضع ورجعت، ثمة ناقص وزائد، لا يبقى شيء، حتى المحيط الذي قيل لي إن المدينة تطل عليه لم أقف عند شاطئه حتى الآن، لم أعرف بعد الدرب المؤدي، لم ألمَّ بالمدينة، رغم بساطتها الظاهرة ووضوح مضمونها ما بين شوارع عرضية وأخرى رأسية ؛ إلا أن ثمة شيئًا غامضًا لم أضع يديَّ عليه يحول بيني وبينها.

نويت أن أصحب ماجدة في الاتجاه الذي أشار إليه باتريك، أن أصل إلى الشاطئ دون أن أستدل من أحد، حتى لو فقدت الطريق فلن يطول الأمر، المساحة محدودة، حددت الخامسة للبدء، يمكنني اللحاق بالندوة التي ستبدأ في السابعة، وتستمر إلى الثامنة والنصف، حيثُ يبدأ تناول العشاء، غدًا في العاشرة تجيء السيارة التي ترحل بنا إلى لاروشيل، يا عالم... هل سأعود إلى هنا مرة أخرى أم لا؟

رن هاتف الغرفة في الثالثة، ظننته خالدًا، إلا أن ما أتاني صوت باتريك المتأمل الخافت، قال إنه يدعوني لحضور اجتماع سيقام في الخامسة لتأبين الأستاذ بريتيه، على الفور قلت إنني سأكون أول الحاضرين، قال باتريك راضيًا: إنه كان متأخرًا، الحق أنني استنفرت لأداء واجب بدرجة ما تجاه إنسان أبدى تقديرًا، وأطل عليَّ بمودة، لا تزال نسخة كتابي بيديه عند تطلعه نحوي.

 

الخامسة....

يعني ذلك أنني لن أرى المحيط، يختفي في الليل، فقط سأسمع أمواجه وهدير الأصوات الغامضة السابحة عبره، كما أنني لا أعرف الطريق المؤدي بعد، كاد يقين يرسخ عندي أنني لن أراه ولو مكثت أعوامًا، ربما فهمت خطأ أنه قريب غير أنه بعيد، لابد أن الذين بنوا قاعدة الغواصات هذه اختاروا الموقع بعناية؛ حتى لا يتعرض لهجوم مباغت وعنيف من العمق، لابد أنه بعيد ولابد أنه قريب، ليس من المعقول تعريض الغواصات للأخطار إذا ما سلكت طريقًا ظاهرًا لفترة غير قليلة، غريب أمر سان نازير، كل مدينة مطلة على البحر يمكنني تعيين الجهة التي يمتد فيها الماء الأعظم، كل المدن، صغيرة أو كبيرة إلا تلك، حتى الآن لا أقدر على الإمساك بالجهة، وكل منْ أجابوني كانت إشاراتهم عامة غير محددة، غير أنني لا ألمُّ جيدًا بالفرنسية، جلست مُصغيًا إلى ما يقال، كان المتحدثون الأربعة فوق الخشبة نفسها التي صعدت إليها لأتسلم مظروف الجائزة، ولأقف دقائق برفقة خالد لنصغي إلى كلمات الأستاذ بريتيه عن روعة النص وجمال الترجمة، الجائزة لكلينا، لم أفهم معظم ما يقال، غير أنني لم أطلب من ماجدة أن تترجم لي، كنت مستغرقًا في محاولة استعادة ملامح الرجل وحضوره، بعد انتهاء التأبين توقفت أمام المنضدة التي تحمل كتبًا، اشتريت أحدها وكان عن رحلة إلى بورما، أمسكته بيديّ رغم صغر حجمه، تمامًا كما رفع كتابي إلى محاذاة صدره، كنت أفكر عندئذٍ في المحيط، ونزول الليل والمبنى الأسمنتي الذي سيحيرني لفترة طويلة.

في الصباح هبت ريح باردة لم أستطع تحديد مصدرها، يستحيل تحديد منابع الرياح، النقطة التي يبدأ منها السريان، ربما في نقطة ما عن عمق الكون، ما نعرف اتجاهاتها.

وضعنا الحقائب في السيارة عبر الباب الخلفي، كانت حديثة، تتسع لنا، يقودها مرافقنا المتأني في حركته، يعرف ألفاظًا عربية ينطقها بفصحى غير سليمة، قال إنه أمضى ثلاث سنوات مدرسًا للغة الفرنسية في مصر الجديدة، يتحرك على مهل، نلوح لخالد وزوجته علا، سيركبان قطار العاشرة المتجه إلى باريس مباشرة، سان نازير في هدوئها الصباحي الذي يبدو من هدوئها المعتاد، المبنى الخرساني غامض مازال، يستدير بالعربة إلى طريق قصير يبدأ عند سور البناية المحاذية للفندق، أحاول رؤية التفاصيل، ما سيتبقى، الوصول والمغادرة، لكن... هل كان هنا؟ بهذا القرب؟

أمامنا على بعد عشرين مترًا يلوح الماء اللانهائي، شاطئ مغطى بأوراق الخريف المتساقطة من الشاطئ القديمة المبثوثة على أبعاد متساوية لم تستأصلها معارك الحرب وغارات الحلفاء ثم نزولهم الكثيف، ثمة ما يشبه النُّصُب، درجة من الزرقة الصافية، غمامات خفيفة هناك، يمكن رؤية الأفق الذي سيلد آفاقًا متوالية، اندفعت العربة بمحاذاته لمسافة لم تستغرق إلا دقيقة تقريبًا، استدارت لتتوغل في شارع رأسي يؤدي إلى الطريق السريع، استدرت محدقًا في الزرقة وانعكاسات الضوء الشمسي على التموجات القادمة، قائد العربة، المدرس العجوز يدفع بالسرعة، يبتعد كل عن الآخر.....