نصف برتقالة


حين تتحرك الجموع أطفالًا ونساء وشيوخًا ورجالًا بعيدًا عن ديارهم نتيجة كارثة طبيعية كزلزال أو بركان أو فيضانات أو سيول أو نتيجة لترويع الآمنين باعتداءات أو حروب، تسرع منظمات الأمم المتحدة، ومنظمات الإغاثة التابعة للجمعيات الخيرية بالماء والطعام والشراب لنجدة الفارين بحياتهم بعيدًا عما روعهم، أو ما حلّ بهم من كوارث.

حين خرج موسى –عليه السلام- بمن معه من مصر تنفيذًا لأوامر الله سبحانه وتعالى فرارًا من فرعون الذي أذل رقاب العباد، لم يكن في التيه ضرع ولا زاد، ولم تكن في ذلك الزمان جمعيات ولا منظمات، فمن أين تأكل هذه الألوف المؤلفة؟ أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم المن والسلوى، حالة استثنائية ووجهت بمعجزة من السماء، فحين يأتي وقت الطعام يتنزل على كل إنسان رزقه المساوي في النوعية والكمية، لما تسلمه كل فرد رجلًا كان أو امرأة أو طفلًا، الجميع متساوون بلا زيادة ولا نقصان.


 ولكن النفوس البشرية لم تحتمل هذه المساواة الدقيقة في العطاء، فذهبوا إلى نبيهم يشكون: {.. يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يُخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقِثائها وفُومها وعدسها وبصلها} البقرة 61.

طبائع الناس تتنوع، فهناك من يتنافس على الأخذ، وهناك من يتنافس على العطاء، ولكن ما نتوافق عليه هو أننا لا نطيق أن نعيش قوالب: ما عندك هو ما عند الجميع، وما ليس عندك ليس عند الجميع، متعة الإنسان وعذابه تحدث حين يأخذ، وحين لا يتمكن من الأخذ، وحين يعطي، وحين لا يتمكن من العطاء، وبين المتعة والعذاب تمضي أيام العمر. قصتي اليوم تروى عن أختين، اختلفتا في الأخذ، أو في عدم الأخذ، سيان، المهم أنهما اختلفتا.

لم يكن متبقيا بالبيت إلا برتقالة واحدة، رغبت كل منهما في أخذها، واستشعرت كل منهما رغبة الأخرى، فاختلفتا، لو كانت إحدى الأختين تملك إيثارًا والأخرى لا ترى إلا نفسها، لتركت الأولى البرتقالة للثانية، ولم يكن هذا هو الوضع، ولكن كانت كل منهما مثل الأخرى، فبدأ الخلاف: الأولى تريد أن تعطي الثانية البرتقالة، والثانية تصر على أن تعطيها للأولى.

وأخيرا حسم الخلاف باقتسام البرتقالة: لكل منهما نصفها.

وهنا كانت المفاجأة، قامت الأخت الأولى بتقشير نصف البرتقالة، وألقت القشر في القمامة، وتناولت فصوص البرتقال تأكلها، وقامت الثانية بتقشير نصفها، وألقت بالفصوص في القمامة، وأخذت القشر وبشرته لتستخدمه في صناعة كعكة البرتقال!!

أحيانًا نختلف اختلافات كبيرة جدًا، رغم ما بيننا من حب، ورغم ما أعطاه الله لنا مما يكفي حاجتنا، بل يضيع الحب الذي بيننا لأننا فشلنا في التفاهم، فشلنا في أن يتعرف كل منّا على حاجة الآخر، وعلى ظروفه، توقفنا عند المطالب، ولم نغص في الأعماق لنستكشف ما وراء المطالب، كثيرا ما تتقطع أواصر صداقات وتفشل زيجات بسبب انعدام أو ضعف التفاهم.

 أعرف قصة حب بدأت بنصف برتقالة، وأعرف علاقة زوجية انتهت بسبب قشر برتقالة!

مثال نصف البرتقالة هذا يستخدمه علماء التفاوض، والتفاوض علم يدرس، وواقع يمارس، نمارسه نحن بالسليقة، أو بالفهلوة، ويمارسه الآخرون بعد دراسة وتدريب، والمفاوضات تمارس في أروقة القصور بين حُكام الدول ووزراء خارجياتها، كما تمارس في الأسواق بين الباعة والمشترين، تمارس بين رؤساء العمل والمرءوسين، وفي البيت بين الزوجة وزوجها، والأبناء وآبائهم وأمهاتهم، ينصح علماء المفاوضات أن يبحث المفاوض عن فائدة الطرف الآخر، ويحاول أن يحققها له بدلًا من التنازع على المواقف، حتى يحصل كلا الطرفين على كل البرتقالة، وليس نصفها.