غريب أمر سان نازير، كل مدينة مطلة على البحر يمكنني تعيين الجهة التي يمتد فيها الماء الأعظم، كل المدن، صغيرة أو كبيرة إلا تلك، حتى الآن لا أقدر على الإمساك بالجهة، وكل منْ أجابوني كانت إشاراتهم عامة غير محددة، غير أنني لا ألمُّ جيدًا بالفرنسية، جلست مُصغيًا إلى ما يقال، كان المتحدثون الأربعة فوق الخشبة نفسها التي صعدت إليها لأتسلم مظروف الجائزة، ولأقف دقائق برفقة خالد لنصغي إلى كلمات الأستاذ بريتيه عن روعة النص وجمال الترجمة، الجائزة لكلينا، لم أفهم معظم ما يقال، غير أنني لم أطلب من ماجدة أن تترجم لي، كنت مستغرقًا في محاولة استعادة ملامح الرجل وحضوره، بعد انتهاء التأبين توقفت أمام المنضدة التي تحمل كتبًا، اشتريت أحدها وكان عن رحلة إلى بورما، أمسكته بيديّ رغم صغر حجمه، تمامًا كما رفع كتابي إلى محاذاة صدره، كنت أفكر عندئذٍ في المحيط، ونزول الليل والمبنى الأسمنتي الذي سيحيرني لفترة طويلة.
في الصباح هبت ريح باردة لم أستطع تحديد مصدرها، يستحيل تحديد منابع الرياح، النقطة التي يبدأ منها السريان، ربما في نقطة ما عن عمق الكون، ما نعرف اتجاهاتها.
وضعنا الحقائب في السيارة عبر الباب الخلفي، كانت حديثة، تتسع لنا، يقودها مرافقنا المتأني في حركته، يعرف ألفاظًا عربية ينطقها بفصحى غير سليمة، قال إنه أمضى ثلاث سنوات مدرسًا للغة الفرنسية في مصر الجديدة، يتحرك على مهل، نلوح لخالد وزوجته علا، سيركبان قطار العاشرة المتجه إلى باريس مباشرة، سان نازير في هدوئها الصباحي الذي يبدو من هدوئها المعتاد، المبنى الخرساني غامض مازال، يستدير بالعربة إلى طريق قصير يبدأ عند سور البناية المحاذية للفندق، أحاول رؤية التفاصيل، ما سيتبقى، الوصول والمغادرة، لكن... هل كان هنا؟ بهذا القرب؟
أمامنا على بعد عشرين مترًا يلوح الماء اللانهائي، شاطئ مغطى بأوراق الخريف المتساقطة من الشاطئ القديمة المبثوثة على أبعاد متساوية لم تستأصلها معارك الحرب وغارات الحلفاء ثم نزولهم الكثيف، ثمة ما يشبه النُّصُب، درجة من الزرقة الصافية، غمامات خفيفة هناك، يمكن رؤية الأفق الذي سيلد آفاقًا متوالية، اندفعت العربة بمحاذاته لمسافة لم تستغرق إلا دقيقة تقريبًا، استدارت لتتوغل في شارع رأسي يؤدي إلى الطريق السريع، استدرت محدقًا في الزرقة وانعكاسات الضوء الشمسي على التموجات القادمة، قائد العربة، المدرس العجوز يدفع بسرعة، يبتعد كل عن الآخر.....