هل صدف أن كنتِ يوماً لاجئة؟
إذن، لا يمكن أن تعرفي معنى الكلمة، وما تحملُهُ من عذابٍ وقلق.
وقد خُصِّص يومُ الحادي والعشرين من شهر حزيران من كل سنة، لتَذَكُّر هذه المشكلة الإنسانية، وسُمِّي يومُ اللاجئين. وبمُخْتَلَفِ أجناسهم وأعراقِهم.
***
حيثما التفتْنا حولنا، نجدُهم... ويُهاجرون من مواطنِ الحروبِ والعذاب، باحثين عن ملجإ أمين يُوارون فيه أجسادَهم؛ في البحار كما في الجبال، وحتى في ذروة أيام الصقيع. يتسلّقون الشاحنات أو يلتصقون بقاعِ السفن المُبحرة. ويبقى هدفَهم المجهول.
***
وتراهم ينطلقون في أيّ اتجاه؛ المهم ان يرحلوا، وأن يبتعدوا عن مواطن التعذيب.
وهم ليسوا أفراداً محدودي العدد، بل نراهم يرحلون جماعات، وتصلُ أعدادُهم الى الألوف، بل عشرات الألوف.
ويُقيمون في بيوتِ التنك، أو أي مأوى يتوفّرُ لهم.
***
وهي قضيّةُ العصر، ولم تتوفّرْ، حتى الآن، وسائلُ حلِّها.
وقد عشتُ، شخصياً، تلك التجربةَ القاسية، وإن لبعضِ الوقت؛ وكان ذلك في إبّان الإجتياح الإسرائيلي للعاصمة، "بيروت"، وعندما احترقَ بيتُنا، وأصبحنا، فجأةً، بدون مأوى، ومُتكلين على الأهل والأصدقاء؛ فالوقتُ حربٌ، والجوُّ مشحونٌ بالقلق، وسُبُلُ الرحيلِ مقطوعة.
***
ووجدتُنا نَقبَلُ بامتنان، تَكرُّمَ الجارةِ الطيّبة، وتفضُّلها علينا بتسليمنا مفتاح شقّتِها، لكي نُقيمَ فيها ريثما تعودُ مع عائلتها، من الخارج.
***
في ذلك الحين، كان إبقاءُ شقّةٍ خالية يُعرِّضُها للإحتلال؛ وقد اختارتْ صاحبتُها أن تُحِلَّ فيها أناساً تعرفُهُم، على ان يحتلَّها مُهجَّرون غُرَباء.
ولتلك الأسبابِ جميعاً، اعتبرتْ سكنَنا في شقّتها لبعض الوقت، وريثما يسودُ الأمن، وتعود مع عائلتها من السفر، اعتبرتْه تكرُّماً من قبلنا عليها وعلى عائلتِها، أو كما قالت: "على الأقلّ أنتم لن تحتلّوا الدار، وأنا واثقة أنكم سوف تُخلونَها حالما ينتهي ترميمُ شقّتكم".
***
في تلك المرحلةِ من تبدُّل وجوه الحرب، اعتبرتُ دعوتَها تكرُّماً علينا؛ وبرغمِ إدراكي لحساباتِها: فنحن جيرانُها، وتَعلَمُ اننا لن نطمعَ بها، أو نحتلَّ بيتها كما درجت العادة في خلالِ سنوات الحرب، بل كانت على ثقةٍ بأننا سنعودُ الى دارنا حالما ينتهي الترميم.
***
وقد كتبتُ أكثرَ من قصّةٍ من وحي تلك التجربة؛ وبقيتْ تتقدّمها قصةٌ قصيرة بعنوان "بيت ليس لها". وقد أصبح عنواناً لمجموعة قصص تُرجمت الى اللغة الإنكليزية تحت هذا العنوان وكلُّ واحدة تقدّم مشهداً من مشاهدِ الحرب.
***
ومن بعض الملاحظات التي كتبتُها حول اللجوء، أقتطفُ مشاهدَ تظلُّ مطابقةً لما يحدث حالياً، وفي كل مكان وزمان:
للمرّة العاشرة تتذكّرُ ان المفتاحَ في يدِها لا يخصُّ هذا الباب؛ إنما يعلَقُ كالدبق، بأصابِعها، كلما امتدّتْ يدُها الى الحقيبة.
حين يُشرعُ البابُ أمامها، تتريَّث لحظات، قبلَ الدخول؛ ثم تُنصتُ، وجِلة، خشيةَ أن يكونَ أحدٌ ما في الداخل... أحدُهم الذي لا يعرفُها، وقد يتصدّى لها كي يطرحَ أسئلتَهُ ليعرف من تكون؟
ومن أين حصلتْ على المفتاح، ثم لماذا هي هنا؟
ويبقى هذا السؤال الأصعب: لماذا هي هنا؟
وتُقرّر ان تصمت، لأن كل الكلامِ لن يقوى على الشرح، والإجابةِ عن ذلك السؤال: لماذا أنتِ هنا؟
ويُلازمُها تأنيبُ الضمير، ومع كلِّ خطوة، ومنذ أن وطئتْ قدماها أرضَ المنزلِ الغريب.
وهي تطأُ الأرضَ وتعتذرُ من بلاط الدار خشيةَ ان تكونَ قد أثقلت الخطى.
***
لكن الذي حدث بعدما أخلينا سكنَ الجارة وعُدنا الى بيتِنا، يُمثّلُ وجهاً مختلفاً من وجوهِ اللجوء؛ فقد سَمَحَت الجارة لعائلة مهجّرة من بعض أحياءِ القتال، أن تُقيمَ في الشقّة، ريثما يعودُ أصحابُها من السفر. وطابتِ الإقامةُ، على ما يبدو، لأولئك الناس، فراحوا يتصرّفون، وكأنّهم يملكون المكان.
وحتى بعدما حلَّ السلام، وعاد أصحابُ الدارِ من خارج البلاد، رفضَ أولئك المُهَجَّرون إخلاءَ المكان ما لم يقبضوا تعويضاً مالياً.
***
انقضى على تلك الأحداث ربعُ قرن من الزمن، إنما آثارُها تبقى عالقة في البال، والذاكرة، علامةً وشهادة على سلوك البشر في زمن الحرب والتشريد.