"افتحي يا أم جهاد، وإذا
لم تفلحي في تربية ابنك فسأربيه لك..!" انتفضنا من على مائدة الإفطار
أنا وأبنائي على هذه الكلمات، وكثورة بركان اندفعنا صوب الباب، كل واحد منا
يتسابق على فتحه، وبإشارة مني، أخمدت لهم لهيب حماسهم، تراجعوا للوراء، وبعد
أن عدلت من هندامي، فتحت الباب بابتسامة استغراب سائلة: «ماذا هناك يا أم
خديجة، خير إن شاء الله؟»، «لا أم خديجة ولا هم يحزنون، ربي ابنك هذا..!» وأشارت
إلى طفل تمسكه بقوة من قميصه الضيق، إنه ابني جهاد، لم أنتبه اليوم إلى
غيابه، كيف تسلل إلى الخارج؟
ألم يصاحب والده كالعادة إلى سوق الخضار؟ ودون وعي مني، انتزعته من براثنها بغريزة الأم التي تدافع عن فلذة كبدها، واهتمامي كله منصب عليه، وقلت لأنهي الأمر: «ولا تهتمي يا أم..»، ودفعت جهاد وأولادي بعيدًا للداخل، وأقفلت الباب ورائي غير مبالية بامرأة مشهورة بلسانها السليط، وبعد أن اتخذ الجميع مكانًا لهم، تسمَّرت نظراتي باتجاه جهاد قائلة: «ما لك ولهذه الطفلة أتريد أن تجلب لنا العار؟»، استحى جهاد وأحنى رأسه قائلاً: «لقد كانت مغرورة في المدرسة، وتعايرني بمهنة أبي الحمال في السوق، فانتظرت حتى أتت العطلة وانتقمت لأبي، والله كسرت لها ساقها»، «عاش جهاد هيييييه» علا صياح إخوته مشجعًا، وكأنني في مباراة لكرة قدم انتهت بهدف فوز، «اخرسوا يا أولاد! العمل ليس عيبًا يا ابني، والله يحب الحليم كاظم الغيظ»، قلت ناصحة وغصة ألم تمزق جوفي، وانخرط ابني في البكاء بصمت حزين، جهاد هذا كبير أبنائي الثمانية، وحكيمهم، ولو قدر لي أن أختار إنجابه مرة أخرى، لاخترت إنجابه هو لا غيره، مرات، وليس مرة واحدة، جهاد يلازم أباه دائمًا في سوق الخضار في كل عطلة صيفية، أما باقي إخوته الصغار فيحوّلون البيت إلى ساحة لحرب عالمية ثالثة، صخب في اللعب، فر وكر، لعبة استغماية، وسباق ينتهي بعراك حاد، لمشاهدة أحد مسلسلات الكرتون، وإذا غفلت عن أحدهم وتسلل خارج البيت، فإنه يأتيني عائدًا بمشاجرة مع أطفال الجيران، وأنا الأم المطحونة، مشغولة عنهم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في مكاني الوفي، ألا وهو المطبخ الحبيب، وتلك الطناجر الضخمة التي تصاحبني لثلاثة أشهر كاملة، كأنني طاهية لفندق خمسة نجوم، لا أصدقكم القول، وربي طاهية لعائلة من ثمانية نجوم، فشهيتهم في الأكل تزداد في مثل هذه العطلات، ولست أدري لماذا؟ هل لأنهم تخلصوا من ثقل دم المدرسة أم ماذا؟ بخصوص الأكل دائمًا، لأن الميزانية لا تسمح بالكثير من طهو اللحم والدجاج، ولأنه لديّ حشد من الجيوش، «ما شاء الله، خمسة وخميسة»، أكتفي بطبخ كل أنواع البقوليات على التوالي، من عدس وحمص وفول وفاصوليا، وما إلى ذلك، لدرجة أن أبنائي يحفظون جدول الأكل، فالأثنين للعدس، والثلاثاء للفاصوليا.. وهكذا، ومرات عدة تحفل مائدتنا بسمك السردين، لأن ثمنه يناسب ملاليم جيبي، بالإضافة إلى أنه غني بالكالسيوم، والذي يساعد على تقوية العظام وضبط ضغط الدم.
ولن أخفيكم سرًّا، العطلة الصيفية أراها جحيمًا لأم أمية لها ثمانية أطفال مثلي، فصوتي تسمع رنات صياحه مرة في كل عطلة صيفية، وعراكي مع الجيران كذلك يكون مرة في السنة، لدرجة أن بعض الحاقدات من الجارات تغني لي كلما مررت بها «زوروني كل سنة مرة، حرام تنسوني بالمرة»، وأكظم غيظي راضية بقدري، لكن مرات حين أختلي بنفسي في دقائق، وهي دائمًا جدّ قليلة، تساورني أفكار عن حال أطفالي، وهل كُتب عليهم وعلى أطفال الفقراء أمثالهم، ألا يتمتعوا كما يتمتع أطفال أصحاب القروش الكثيرة بعطلهم الصيفية «اللهم لا حسد»، فتفتح لهم مدن الترفيه، وتخصص لهم خيم مجانية على شواطئ البحر، الذي يمتد من الغرب إلى الشرق، ليمرحوا ويلعبوا، أو حتى القيام بمبادرة تحسين مستواهم الدراسي عن طريق تقديم عروض «ببلاش» في المواد المقررة لهم، والله أبنائي، وابني جهاد خاصة، يذكّرونني بأطفال غزة في كفاحهم، أنا أعرف أنهم مثل ابني يزاولون عملاً في عطلهم ويكابدون جور العدو، لكن رغم ذلك هم مؤدبون، ولا يعطون لابنة أم خديجة علقة ساخنة، كسّرت ساقها، كما أعطاها لها ابني جهاد.