قراءتي لكتاب "مطاحن الطائفية، شهادة حبّة قمح" الصادر حديثاً عن الدار العربية للعلوم لمؤلِّفته الزميلة سونيا بيروتي، تزامنتْ مع نشر خبر جاءنا من سويسرا، عن دواءٍ جديد طوّره علماء الطبّ ويمحو الذكريات الحزينة والمحرجة.
***
قلتُ لنفسي: لو نجح هذا الدواء، وعمّ انتشارُه، فسوف يخسر معظم الكتاب العرب فرصة التأليف؛ لأن الأزمنة التي عشناها ماضياً، ولا تزال تحملنا في حاضرنا، مجلّلة بالحزن ومفعمة بالألم.
***
وسونيا، الزميلة التي عرفتُها وتَرافقْنا منذ نصف قرن من الزمن، تأبى إلا أن تعودَ الى ذكريات الحرب التي كانت تُعرفُ بحربِ السنتين؛ واذا بها تتمدّد، وتتناسلُ لتصبحَ الماضي والحاضر، وتهدّدَ بأن تكونَ المستقبل.
***
وسونيا تجني باقاتٍ مختارةً من بعضِ ما عشْنا، واختبرْنا في خلال تلك الحرب. وتصف بأسلوبٍ ساخرٍ ولطيف، أحوالاً نتماهى معها، لأننا أقمنا فيها زمانا.
فمن خوف الأمّ على أبنائها المراهقين، تُدخلنا المؤلِّفة الى عالم زاخر بالوعود والتهديد. لأن القوّةَ تعملُ مع العنفِ على إغراء الفتيان والشباب، وجذبهم الى ساحتِها؛ فيما تبقى الأمُّ الخائفة وحدها في ساحة الكفاحِ لأجل إنقاذهم.
***
وهذه الصورة التي ترسمها الكاتبةُ برشاقةِ قلمها، وبأسلوبِها الساخر والفكه، تُعبِّرُ عما عاشتْهُ العائلات. وعن الصراع الكبير لدى الأهلِ من خوفٍ على أولادِهم. كما تُبرزُ جاذبيّة القوّة التي تشدّ الشباب الى ساحة المعركة.
***
والمؤلِّفة، وهي إعلاميةٌ بامتياز، كانت ولا تزالُ مقيمةً وسطَ التيّارِ المتحرّك، وهذا ما يَجعلُها تكتُبُ بحرارةٍ وحيوية. كما انها لا تنْحازُ لأيِّ جهةٍ كانت. ومن خلال معايشتِها للأحداثِ يوماً بعد يوم، ولحظةً في إثرِ لحظة، تُدخلنا الى دهاليزِ الواقع، لنقرأَ مثلَها ونرى معها الوجهَ الخفيَّ لتلك الأحداث، ومن دونِ تَحيُّزٍ لفئةٍ أو لجهة. ومن بعضِ ما تقولُ: "لم أذكرْ كلَّ تجاربي، إنما الأحداث التي لها علاقة بالطائفية، لأنها عدوَّتي الكبرى".
***
يقعُ الكتاب في 29 فصلاً، وهو مخزونٌ ثمينٌ حفظتْهُ الذاكرةُ التي تقول فيها المؤلِّفة: "أتّكلُ في كتاباتي على الذاكرة، لأن الفئرانَ أكلتْ الكثيرَ من أوراقي حين أقمتُ في الملجإ فترات طويلة. كما أكلتْ أوراقاً دوّنتُ عليها بعضَ الملاحظات".
***
توقفتُ بإعجاب عند محطّاتٍ كثيرة في خلال قراءتي الكتاب؛ خصوصاً أمام قدرة المؤلِّفة على تحويل الكلمات الى مشاهد، ومنها:
- الوصف الحيّ لتلك اللحظات التي تجعل الناس، في الملجإ الواحد، يتقاربون، فيما تنهمر القذائف مهدّدة بل ومنذرة بالموتِ.
- قدرة الكاتبة على الإحتفاظ بروح المرح والفكاهة في وصفها لسلوكِ الناس أو تواترِ الأحداث.
- تُحسنُ الكاتبة التقاطَ لحظاتِ الحياة من بين عجلاتِ الموت، كما في قولها: "كلُّ واحد منا مستعدٌّ دائماً لسرقةِ ساعة صفاء من زمن علقم، وبلد يَحكم علينا بتذوُّق شتّى ضروب الشقاء".
***
ولذلك، تمتشقُ الكاتبة سلاحَها الوحيد، قلمَها، وتتقدّم للمواجهة بوعي الإنسان العاقل الذي يُدركُ تهديدَ اللحظة، وخطرَ الحرب، ولذا تقول: "لقد اتكلتُ في كتابتي على الذاكرة".
***
وتبقى روحُ السخرية طاغية وهي ليست تلك النابعة من كراهيةٍ أو حقد، بل من تأمُّلٍ مليّ وعميقٍ في مسار الأحداث وسلوك الناس "أكتبُ على إيقاع ضربات المدافع. أكتبُ كي لا أتصوّرَ ما يحصل هناك، كلّما سقطتْ قذيفة. وأكتب كي أغيبَ عن الوعي".
***
وحتى في وصفها للمشاهد أو الأحداث المأساوية، تظلُّ تلك الروحُ المرحة تقودُ قلمَها، وتتجلّى مع كل نقلة؛ خصوصاً الفصل الذي تصفُ فيه مقابلةً صحفيةً مع من تدعوه "القائد العسكري المرتجل". فقد ذهبتْ اليه كي تُجريَ حواراً معه، وتنقلَ صوتَهُ الى القرّاء. وصدف، في تلك اللحظة، أن بدأ القصفُ المدفعي، فاذا بالجميع يَنْشُدُ الهرب.
وتُصوِّرُ المشهد فتقول: "أذكرُ أننا والبطل معنا، رُحنا نمشي على قوائمنا الأربعة في الأروقة الداخلية للمكان".
***
هذا واحد من عدّة مشاهد أو مواقف تناولها قلم سونيا بأسلوبٍ قادر على التلميح بدل التصريح. وقد نجحتْ في بعض الأحوال، أن تُقَدِّمَ المشهد أو الحدثَ بكلمةٍ صريحةٍ ومعبِّرة.
***
وإذا شئتُ أن أختصرَ شهادةَ حبّة القمح التي أفلتتْ من مطاحن الطائفية لقلت: هي شهادةُ من أحبَّ كثيراً، حتى يقوى على التسامحِ والغفران.