جلستُ أراقبُها، وأُصغي إليها تتحدّثُ بكل الثقة والتأكيد عمّا ينتظرُ الناسَ في غدهم.
فعلتُ ذلك لإغاظةِ نفسي، ثم لأعرفَ الى أيِّ حدّ يمكنُ أن يبلغَ ببعضهم الجهلُ والغباءُ والغرور.
***
وهي، لشدّةِ ثقتِها بنفسها وبما تعلمُهُ عن الغيْب، لم تكن تتردّدُ في رصف الكلمات؛ وكلُّها تؤكّدُ ما سيحدثُ لفُلانٍ أو فُلانة في غد الأيام.
أما الشرطُ الوحيد الذي كانت تضعُهُ تلك الرائية الى الغد المجهول على سائلِها، فهو ان يذكرَ إسمَهُ وإسمَ والدتِه: فُلان ابن فلانة.
***
أعلمُ كم نتوقُ الى لقاء الغد. والى فتحِ الأبوابِ المغلقة، وولوج تلك السَراديبِ الخفية من مستقبل الأيام.
لكني لا أفهم هذه الفورةَ العصريةَ لاستعادةِ التنجيم، وقراءةِ الحظّ، والتبصير، والى آخر قاموس لغة الغيب، وقد نشأنا معها منذ الطفولة، ومنذ ان كانت تلك البدوية المتّشحة باللباس الأسود؛ وتجيئنا من عالمٍ غامضٍ مجهول، وتخترقُ عُزلةَ الريف، كي تدخلَ البيوتَ والعقول، وحتى القلوبَ في بعض الأحوال.
***
وكنّا نستقبلُها، ونفرشُ لها المقاعد الوثيرة، ونُغدقُ عليها العطايا، شرطَ أن تُدخلَنا جنّةَ رؤاها.
لا تزال نغمةُ صوتها تتردّد في الذاكرة حتى هذه اللحظة: بصّارة، برّاجة بتشوف البخت.
ويا بخت من تترضّى عليه أو عليها!..
وهي، بنظراتها الخبيرة، تغربل الوجوهَ المتحلِّقة حولَها؛ ثم تمضي في القراءةِ من كتابِ المستقبل:
- بعد إشارة، أو إثنتين، تدّقُ بابَكَ الرزقة...
أو:
- يزورُكَ شخصٌ قادمٌ من خلفِ البحار السبعة، ويحملُ اليك الخير والسعادة.
ومع كلِّ كلمةٍ تتفوّهُ بها، يُنثرُ في صحنِها العطاءُ، ومن مجتمعٍ جُلُّ حضورِهِ من النساء.
***
وكانت تأتي من المجهول، ثم تتوارى، تاركةً نفوسَ من قابلَها، أو تعامل معها، معلّقة عل حبالِ الإنتظار.
***
لكن بصّارة هذا الزمان تُطلُّ علينا من كلِّ المحطاتِ والقنواتِ المرئية أو المسموعة والمقروءة. وبكلّ الثقةِ بالنفس، توزّعُ الحظوظَ على سائليها، شرطَ ان تعرفَ اسمَ السائل واسم والدته؛ لأن موزِّع الحظوظ والوعود، والذي يتواصل معها من خلف حجاب الغيب، يشترطُ ان يحدثَ مثلُ هذا التعارُف.
***
ولماذا تُقبلُ النساء أكثرَ من الرجال، على قرع تلك الأبواب المغلقة؟...
سؤال أتركه معلَّقاً، علَّ الجواب يأتي من عالمٍ نفسي، أو باحثٍ في شؤونِ الناسِ ومجتمعاتهم.
أو قد يأتي من إحصاءٍ لمعرفةِ نسبة النساءِ بين مشاهدي تلك البرامج، أو بين قارئي كتبِ الأبراج؛ وهي، بالمناسبة، تحققُ أعلى نسبةِ مبيعٍ ورواجٍ في خلال المعارض التي تُقام لعرض الكتب.
***
وبالطبع، هناك عدّةُ أساليب لفتحِ أبوابِ المستقبل؛ ومنها ما هو مكتوب في راحة اليد، وله قُرّاؤُهُ، والمختصون في فكِّ رموزه.
كما ان التبصير في فنجانِ القهوة، يكاد يكونُ من تقاليدِ مجتمعنا، في الريف كما في المدن. وتبقى للبصّارةِ المحترفة التي تجيءُ في المواسم وفي الأعياد، إطلالتُها المميَّزة.
***
وما دمت قد فتحتُ هذا البابَ على الغيب، فلا بدّ من ذكرِ الأحلام، ولها مُفَسِّروها، ومن يشرحُها ويفكُّ رموزَها.
***
ويبقى عالقاً في ذهني الشرحُ العلمي لتلك الطبيبة الشابة، في تفسير الأحلام إذ تقول: هي يقظةُ اللاوعي خلالَ هجعةِ الفكرِ الواعي.
***
لكن الشرحَ العلمي لا يقوى على الحدِّ من جموحِ الوعي والخيال.
لذا سيظَلُّ الناسُ يحلمون؛ وتَوْقُهم لمعرفة الغدِ المجهول سوف يقودُهم دائماً لتأمينِ الرزق لمن اختارَ الرؤيةَ من خلالِ الحجاب المجهول.