شخصيتنا النسائية التى نتحدث عنها اليوم شخصية لها مكانة كبيرة عند رب العالمين، فقد أجاب الله تعالى رجاءها، واستجاب لدعائها، وتقبل نذرها؛ وليس ذلك فحسب بل خلد ذكراها وأورد قصتها فى كتابه الكريم فى قرآن يُتلى إلى يوم الدين. والأكثر من ذلك أن سُميت سورة فى القرآن الكريم باسمها تروي لنا تفاصيل قصتها وهى سورة «آل عمران» أى أهل عمران أى زوج عمران وهى السيدة الجليلة التى لانعرف عنها الكثير «حنة بنت فاقود» أم السيدة مريم بنت عمران وجدة نبى الله عيسى عليه السلام.
السيدة حنة بنت فاقود هى سيدة مؤمنة طائعة خاشعة كانت زوجة للرجل الصالح الجليل سيدنا عمران حبر أحبار (شيخ مشايخ) بنى اسرائيل، وصاحب صلاتهم.
والسيدة الجليلة حنة إتخذت من الدعاء بابا لها، ومنهاجاً لتفريج الكروب وتحقيق الأمانى، وكيف لا والدعاء بابً من أهم أبواب الفرج الكثيرة التي شرعها الله للمسلم من عبادات وطاعات.
اصطفاء لاقى أهله
كان إصطفاء الله سبحانه وتعالى لهذه الأسرة الكريمة اصطفاء لاقى أهله فالأب عمران ذلك العالم الجليل العابد والذي كان صاحب صلاة بنى إسرائيل في زمانه والثابت على الحق، فى وقت زلت فيه أقدام كثيرين من بنى اسرائيل، والأم حنة تلك العابدة الطائعة التي كانت تحب زوجها وتعينه على عبادة الله، والتى ثبتت بدورها فى زمان كان أغلب من حولها من نساء ورجال من الفاسدين، فرضى الله عنهما وأحبهما واصطفاهما على العالمين فيقول تعالى عنهما فى كتابه الكريم: {إن الله إصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين}
الإشتياق إلى الذرية
ولكن كان هناك شيء واحد يشغل بال السيدة حنة وتتمناه، وهو أن تنجب لعمران، زوجها، ولدا صالحا يخلف أباه في إمامة بني إسرائيل فقد كان عمران من نسل سيدنا سليمان عليه السلام.
وقد ظل الزوج والزوجة مرابطين على الإيمان والصبر طائعين لله متمنين دوماً أن يرزقهما الله تعالى بالذرية الصالحة، على الرغم من تقدم العمر بهما. وكل ذلك برضا وأمل كبيرين فى الله عز وجل .
معجزة الله والفرخ الصغير
وفي يوم من الأيام ذهبت السيدة حنة تتأمل في خلق الله بعد أن أنهت طاعتها الصباحية أو كما نقول نحن «أذكار الصباح» .
وخرجت تشم نسيم الهواء وتتأمل في ملكوت الله وإذ بها أمام طائر صغير يغرد ويصيح ومالبث أن خرجت من أحشائه بيضة صغيرة في إنتظار صوص أو «كتكوت» صغير.
إشتاقت نفس السيدة حنة أن يكون لها إبن صغير مثل هذا الطائر. وتنهدت وقالت: «ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الفرخ الصغير».
وبكت حزنا على حالها، ورثت لنفسها.
لا يأس مع رحمة الله
لكنها كشأن كل النفوس المؤمنة لاتجعل اليأس يتمكن من جوانبها فأزاحت عن نفسها اليأس، وتضرعت إلى الخالق العظيم وناجت ربها وألحت ، وطرقت باباً من أبواب الفرج الذى لايُغلق أبداً، ألا وهو الدعاء، وظلت تدعو وتدعو وتبتهل إلى الله عز وجل، ولم تبرح بقعتها، ولم تنصرف إلى بيتها إلا وقد امتلأت نفسها بشرا وسرورا، بعد أن علمت أن الله لن يخذلها فهذا وعد قد قطعه المولى الكريم عز وجل على نفسه إذ قال:
{إدعوني أستجب لكم} .
وهو كذلك القائل: {أم من يجيب المضطر إذا دعاه}
البشارة
ولم يمر اليوم أو اليومين إلا وحدثت معجزة الله العظيمة وشعرت السيدة المؤمنة حنة بأن الله سبحانه وتعالى قد منَ عليها واستجاب لها؛ وكانت المفاجأة.
إستجاب الله الدعاء وجاءتها البشارة ففرحت كما لم تفرح من قبل وذهبت لتبشر زوجها عمران الذي لم يصدق في بداية الأمر، فقد كان العمر قد تقدم به وبزوجه لكنه علم أن الله على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
ظل الزوج والزوجة المؤمنان يشكران الله على معجزته لهما الأيام الطوال والليال ويدعوان لوليدهما المنتظر بالخير والبركة.
شكر الله بعد إنعامه
وربما يجب علينا أن نتعلم هذا الخُلق القويم الذى يجعلنا نتذكر الله فى السراء والضراء وقبل تحقيق الأمانى وبعد تحقيقها، ولانكون كالذين يدعون ربهم فى الضراء وعلى جنوبهم وعندما يفرجها الله عليهم ويكشف ضرهم نجدهم نسوا الله ونعمه وعادوا إلى غفلتهم من جديد.
وصدق الله حينما قال: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونآ بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض}
المولود الجديد والنذر
وتمر الشهور مسرعة ويقترب موعد وضع السيدة حنة وتشعر حنة بمنتهى الامتنان بما فعله ربها لها فتنوى نية وتقطع على نفسها عهداً فتقول:
{رب إني نذرت لك مافي بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم}
لقد قطعت السيدة حنة على نفسها عهداً أن تهب إبنها الذى طال انتظارها له السنين الطوال؛ للمسجد أو لمكان عبادة الله عز وجل ليتفرغ لعبادة ربه وحده لاشريك له، ولخدمة بيته ولمعمريه من العابدين والساجدين.
أخبرت حنة زوجها عمران بما نوت عليه ونذرته؛ فأشرق وجهه بالفرح واتجه بدعائه إلى السماء وأخذ يشكر الله سبحانه وتعالى أن هدى زوجته إلى هذا التفكير وعلى نعمته التي أنعم بها عليه بعد أن بلغ سن الكبر وصار شيخا كبيرا.
علم بنو اسرائيل ببشارة الله لصفيه عمران وزوجته المؤمنة حنة وفرح جميع المؤمنين واستبشروا منتظرين قدوم الحادث السعيد.
المولودة اليتيمة
ومرت الأيام وقبل أن يحين موعد ولادة السيدة حنة مرض عمران مرضا شديدا، حزن المؤمنون من بني اسرائيل ـ وكانوا قلة ـ حزنوا لمرض عمران ودعوا الله أن يشفيه سريعا حتى يعود ليصلي بهم في بيت المقدس ولكن شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يتوفى عمران قبل أن تضع زوجته حنة وليدها فكان قدر الله أن يأتى مولود السيدة حنة يتيماً محروماً من حنان الأب.
الرضا بأمر الله فى كل الظروف
وكعادة السيدة حنة المؤمنة الراضية المستسلمة لقضاء الله وقدره لم تتذمر ولم تشك ولم تعترض ولم تفعل إلا ما يرضى الله عز وجل مذكرةً إيانا بمقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مات إبنه ابراهيم، فقد قال:
«تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون».
الوفاء بالنذر فى أحلك الظروف
وجاء أوان الوضع وكانت المفاجأة. لقد جاء المولود أنثى. وكانت السيدة حنة تتمناه ذكراً، لتفي بعهدها الذي قطعته لله بأن تضعه في خدمة المسجد والعبادة وأن يحل محل أبيه.
ورغم ذلك قررت حنة أن تفي بعهدها لله وإبتهلت إلي الله قائلة:
{رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}
فيرد عليها ربها جل وعلا ويستجيب دعاءها مرة اخرى فيقول سبحانه وتعالى:
{فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا}
البنات حسنات والبنون نعمة
ولم يكن تعجب السيدة حنة من مولد ابنتها أنها أنثى هو سبب دهشتها، ولكن لأنها تعلم أن الذكر ليس كالأنثى فى خدمة بيوت العبادة وخاصة بيت المقدس ، فخافت أن يحول جنس المولود دون إيفائها بنذرها، وما وعدت به ربها.
ويقول الصالحون من الحكماء إن البنات حسنات والبنون نعمة، فالحسنات يُثاب عليها والنعمة يُسأل عنها.
ولكن السيدة حنة عزمت وما عزم المؤمنين كغيرهم من الناس ، فالمؤمن إذا نذر لله شيئاً فعله وإذا نوى عمل طاعة لله ما منعه من فعل تلك الطاعة شىء .
وما أن استراحت الأم من عناء الولادة وآثارها، وأرضعت وليدتها الجميلة مرات معدودة حتى لفتها فى خرقة (أى قطعة من القماش) وأخذتها إلى بيت المقدس ووضعتها بين يدى الأحبار ليبدوا فى نذرها رأيهم .
وكان الأحبار فى ذلك الوقت من أحفاد هارون أخي موسى عليهما السلام وكان لهم الإشراف على بيت المقدس.
هالة من النور على ابنة عمران
وما إن رأى الأحبار هذه الوليدة الصغيرة حتى هالهم ما رأوا من جمالها وقبولها والنور الذى كان يشع من وجهها ، ومالت قلوبهم نحوها وتنافسوا على كفالتها خاصة وهى من ذرية عمران خير أحبارهم وصاحب صلاتهم .
ومن الراجح أن السيدة المؤمنة حنة كانت تتواجد بالقرب من ابنتها التى سمتها مريم أى «العابدة» بلغتهم، ونذرتها لله ولخدمة بيته .
وعلى الرغم من أن هذه السيدة الفاضلة حرمت من الإنجاب فترة طويلة من حياتها وكان من الممكن أن تتراجع وتتعلل عن نذرها لخدمة وليدتها إلا أنها ثبتت على مبدأها وآثرت رضا الله وكانت رمزاً للثبات على المبدأ وعدم الحنث بالوعد أو النذر.