كنت فتاة تخترقني عواطفي الملتهبة، ويتملكني عناد غريب رغم صغر سني، لدرجة أنني وقفت بكل قوة أمام فرمانات أبي عندما رفض الإنسان الذي اخترته بقلبي الصغير، وعقلي محدود التفكير، رغم أنه أخبرني عن سبب رفضه لهذا الرجل، فعند السؤال عنه اكتشف أنه إنسان انتهازي له العديد من الوجوه المتقلبة التي يتعامل بها مع من حوله، ولم يتمكن من معرفة أي شيء عن أهله، لأنهم يعيشون في منطقة بعيدة عنَّا، كما أن مستواه الثقافي، والاجتماعي، والمالي أقل منا بكثير، لكن أمام إصراري بكل ما أوتيت من عزم، وقوة، رضخوا للأمر، لكنهم وضحوا لي أنهم لن يدخلوا منزلي، وإن أردت زيارتهم فعلي أن أكون بمفردي، فوافقت وتزوجت، وسارت حياتي مع ثورة حبي، كنت أسير مسلوبة الإرادة تحرقني كل همسة، أو نظرة منه، فقد أحببته، وتحديت العالم من أجله، فحبه راسخ في قلبي وكياني، فهو الوحيد الذي غزاني، فوهبته كل ما أملك من أحاسيس ومشاعر، وائتمنته على عمري فكيف لا أأتمنه على أموالي، فسلمته كل ما أملك، واندهشت حين أخبرني بعد شهر من زواجنا، وهو يرسم على وجهه الحزن بأن دوام عمله الجديد سيكون في الليل، وبذلك لن يتمكن من المبيت معي، قالها بكل وداعة، وحنان فوافقت وأنا مكرهة، فحياتي ستصبح كئيبة من دونه، ومملة، وصعبة بسبب البعد المكاني، والزماني بيننا، فأنا أحيا الغربة والوحدة في منزلي، ولا أراه إلا كلما ثار شوقه، أو حين يحتاج لمال، فهو المسؤول عن أهله... وأتذكر كم من المرات التي استنزف فيها مشاعري، فوالده يحتاج لعملية جراحية، ووالدته تموت، وتحتاج منه أن يمد لها يد العون والمساعدة، فأقوم بكل رضا لأمنحه ما أستطيع، ولساني يلهج لهما بالشفاء، وله بالصبر والثواب الذي سيناله من رضاهما، والبر بهما.
وعشت بالحب وللحب، لكن أين الحبيب!! لقد كنت مثل محطة يتوقف عندها المسافر، فكان إذا أمضى ليلة معي اعتبرها عيدًا، ورصيدًا أعود واسترجعه ليؤنس وحدتي في ليالي غيابه عني.
ومن فترة لأخرى كنت أسأله كيف لرجل يحب زوجته لا يتمنى أن ينجب منها حتى الآن رغم مرور سنتين على زواجنا، أليست لديه مشاعر أبوة ويرغب بأن يحمل طفلاً يكون امتدادًا له، فكان يخدعني بكلامه المعسول، وبأني طفلته، وهو لا يحتاج من العالم غيري، والأطفال نعمة من الله تأتينا وقت ما يريد.
تجملت بالصبر فقد كنت أرى الدنيا بعينيه، ولم أدرك أنها لا بد أن تكون قد تغيرت، فكل شيء يتغير، والقلوب تتقلب، فلماذا لا يكون هو أيضًا تغير.
ولأول مرة قررت أن أرى الدنيا بعينيَّ، وليس بعينيه، وأن أحسها بقلبي، وليس بقلبه، فبدأت أبحث وأتحرى عنه هنا وهناك حتى اكتشفت الخدعة الكبرى التي غرقت فيها، وعرفت أن زوجي رب أسرة، وأنني بالنسبة له كنت مجرد زوجة يأتيني وقت فراغه بينما عمره أودعه لدى زوجته الأولى، التي أنجب منها، ولم يخبرها بوجود امرأة أخرى على هامش حياته، فقد كان له وجهان، وحياتان، وامرأتان مخدوعتان، حدد لكل منهما وظيفة في حياته، واحدة للأسرة والأبناء، وأخرى متفرغة للحب بعيدًا عن الضوضاء، فقد كنت بالنسبة له الصدر الحنون الذي يلقي رأسه عليه كلما شعر بالتعب، وكيس النقود الذي يغرف منه كلما مر بضائقة مالية، فعل كل ذلك من دون أن يطرف له جفن، أو يتعذب تحت وطأة السر الرهيب.
وبمواجهته بالحقيقة قال لي بكل هدوء إنه بالفعل أحبني، ولم يشأ أن يخبرني خوفًا من أن أرفضه، لحظتها سيخسرني، وكأنه بكذبه وخداعه لي لم يخسرني، أو بالأحرى خسرت نفسي، بعدها سددت كل منافذ عطائي، وحبي، وانزاحت الغشاوة من على قلبي، وعقلي، وكياني، فلم أعد أطيق أن أراه، أو أسمع حتى صوته، لحظتها، طلبت الطلاق منه فقال بكل وقاحة ردي لي المهر الذي دفعته، ونسي أنني من كنت أصرف عليه، وعلى أهله، وبالفعل أقمت دعوى خلع، وأخذت حريتي.
لا لن ألومه، أو ألوم سذاجتي، واندفاعي، وحسن ظني، ولن أعتب على قلبي، أو حتى نفسي، فمن ذا الذي يستطيع أن يعتب على حكم القدر، أو يعترض عليه، وأنا الآن أعيش وحيدة بعد أن حرقت كل أوراقي السابقة، وأتمنى أن تعود لي نفسي التي عاشت أكبر كذبة.
أنين امرأة
معاناة الكثير من المتزوجين والمتزوجات، على حد سواء، تكمن في أنهم كانوا يعتقدون أن الزواج هو كالاستجمام الدائم على شاطئ مبلل بالفرح والبهجة، مما ينعكس سلبًا على حياتهم عندما يقترن أحدهم فعليًا بشريك العمر، حيثُ يكتشفان أن الزواج ليس كما كانا يتصورانه.
عبد الله المغلوث