..وعلى المتضرر.. البكاء!


هناء فتاة ذكية، متوثبة وطموحة، تفوقت في كافة مراحل دراستها، حتى إذا بلغت الثانوية، وعدها أبوها أن يسمح لها بدراسة الطب إن هي حققت المعدل المطلوب. تفوقت على نفسها، وأصابت نسبة تقارب المئة في المئة. وظنت أن حلمها بارتداء المعطف الأبيض أصبح أقرب.

تراجع والدها عن وعده، بعذر أن المجتمع لن يقبل بدراستها، وعملها في بيئة مختلطة، ولم يعطها غير خيار الدراسة في كلية التربية.. لتصبح مدرسة للبنات. صدمتها كانت بالغة، وجرحها كان عميقًا، لكنها لم تجد من يسندها، أو يوافقها، فقبلت.

مات والدها قبل أن تتخرج، فتولى إخوتها رعايتها... لكن بشروط. أولها أن تترك لهم إدارة إرثها من أبيها. وثانيها ألا تتزوج إلا من يوافقهم، ولا مانع من عملها كمدرسة.

جاءها عرسان كثر، فقد كانت صغيرة وجميلة وغنية.. ومدرسة، لكن إخوتها كانوا يرفضون هذا بعذر أنه فقير، وذاك لأنه طامع، وأولئك لأنهم من غير عائلة، أو حسب ونسب. وأخيرًا قبلوا بشاب من أسرة ذات مال وجاه، ورغم أنه ضعيف الشخصية، «خاتم في أصبع أمه»، كما تصفه، إلا أنها قبلت به لتخرج من «بيت العذاب»، كان هذا قبل أن تكتشف أنه «جاهل، وسطحي، وممل»، عندها أصرت على الطلاق.. قبل الدخلة.

غضب إخوتها لموقفها، وغضبوا أكثر عندما بدأت تطالب بحسابات تركتها، وكانت عقوبتها على تصرفاتها أن وضعوا شروطًا أعلى لأي عريس.

مرت السنوات، وهناء صامدة، وصابرة، ترى حظها في حياة أسرية سعيدة يتلاشى مع الأيام، وأخيرًا، وتحت ضغط الخوف من مستقبل بلا زوج ولا أطفال، وحصار المعاملة السيئة لإخوة بلا ضمير، قبلت بعريس خمسيني كزوجة ثانية.. وخرجت أخيرًا من «سجن العائلة».

تقول: لا أزال أعيش حلم الطبيبة، لا أزال أعيش حلم حياة حافلة بالتحدي، والتجدد، والعلم.. زوجي طيب وحنون، وعلى قدر من الثقافة والوعي، لكنه، كغيره من رجال العائلة، أسير العادات والتقاليد.. والتناقضات، عندما نسافر يسمح لي بدراسة الإنجليزية والاختلاط، لكننا ما إن نعود، حتى نعود، وكأننا نعيش عالمين: عالم عندما يكون القرار لنا، وعالم عندما نسلم قيادنا للآخرين. لست مضطهدة بمعنى التعرض لاعتداء جسدي، لكن روحي حبيسة.. الشرع أعطاني الحق أن أدير أملاكي بنفسي، أن أستثمر أموالي بنفسي، لكن المجتمع اعتبر أن إصراري على ذلك إهانة لإخوتي، وتجرؤ على ولاة أمري، و«استرجال» على حساب الرجال.

والشرع أعطاني الحق أن أختار مجال دراستي وعملي، طالما لم يكن في حرام، لكن المجتمع فرض عليَّ أن أقبل بما يختاره لي أهلي، حتى ولو بلغت سن الرشد، وكنت على قدر من العقل والنضج.

والشرع أعطاني الحق أن أختار زوجي، لكن المجتمع سيعتبرني «جريئة»، و«متمردة»، و«خارجة» إن أنا خطبت لنفسي، أو رحبت بمن يعجبني، ورفضت من لا يرتاح قلبي إليه. أما إن طلبت الطلاق لغير ما عذر صارخ، كالاعتداء الجسدي، أو الجرائم المخلة، فأنا لا أستحق غير لقب «مطلقة» يعلق بي للأبد.

فلا يعيب الرجل، في نظر المجتمع، أنه متخلف، أو سمج، أو عاجز، أو بخيل، أو سيئ الخلق والخلقة.. لا يضير الرجل في نظر الناس أنه مشغول بأي شيء وكل شيء إلا بيته وأسرته.. ولا يبرر تطليقه أنه خائن، يفرض على زوجته أن تصونه حتى في الحلم، وتحفظه حتى مع التقصير، وتغلق على عقلها، وطموحها، وبيتها ألف قفل، ثم ينفق ماله، وطاقته ورومانسيته على غيرها.. وهي تعلم.

لا أريد أن أخرج على كل التقاليد، فبعضها حتى ولو لم يكن شرعيًا، إلا أنه يتناسب مع ظروف البيئة وثقافة المجتمع، لكنني أرفض أن تكبلني هذه التقاليد لدرجة حرماني من حلم عشته منذ الطفولة.. أن أكون طبيبة.

قلت لهناء: نحن أمام قهرين، لا قهر واحد: قهر الظالم، وقهر المظلوم. فالمظلوم عندما يستسلم لظالمه، ويحرض غيره على الاستسلام، يصبح هو نفسه مشكلة. فكما لاحظت أن من استنجدت بهن من النساء خذلنك. وطالما لم تتوحد مواقفكن، من خلال جمعيات، وتصل أصواتكن إلى الناس عبر منابر الصحافة، والكتب، والمنتديات، والإنترنت وغيرها من وسائط التعبير، يبقى الوضع على ما هو عليه، وعلى المتضرر الاكتفاء.. باللطم والبكاء.