لحظات في عمر امرأة

تعرفت على رزينة عن طريق صديقة مشتركة، تقابلتا عند المحامي، كلتاهما كانت تنجز معاملات طلاق شاق، ومؤلم، صديقتي -التي كانت تتردد مثلي على جمعية ثقافية نسوية- عرفتني بشريكتها في محنة التقاضي، وجمعتنا بعد ذلك جلسات طيبة.. رزينة عملت ما يزيد على عشرين عامًا في كلية الطب في العاصمة، كانت الذراع اليمنى لنائب العميد، لغتها الفرنسية الممتازة، وخفتها في العمل، وقدرتها الفائقة على التواصل مع الناس من كل الفئات، والطبقات جعلت رئيسها يودع كل ملفات الكلية الحساسة بين يديها.

«رأيت العجائب هناك، طلبة لا يفقهون شيئًا يتخرجون دكاترة، وبروفسورات، ونوابغ ينحون على الهامش، ويحصرون في وظائف إدارية ثانوية، الوساطة هي مفتاح المستقبل هناك، إن كنت مسنودًا بشخصيات معروفة، فستحصل على شهاداتك، وفوقها أوسمة التميز، وإن كنت مسكينًا تحلم بالمجد فلن يفيدك عملك، ولا نبوغك...«

لم يكن بيد رزينة شيئًا تفعله، كانت تؤدي واجبها، وتتبرأ مما يحدث في الكلية، وعندما بلغت مشاكلها مع زوجها طريقًا مسدودًا أثّر عليها وعلى أولادها، تقدمت بطلب تقاعد مبكر.

قعدت في البيت، وانشغلت بمقاضاة زوجها، وعانت الأمرين لتقنع المحكمة بأحقية طلبها.

لم تكن امرأة طائشة، ولا أمًّا أنانية تتصرف بصبيانية، ولا مسؤولية، تكررت حالات تعدي زوجها عليها بالسب، والضرب، كان يتعاطى المنكر في الخفاء، ويتصرف بفجاجة، وقلة حياء أمام أولاده، لم تجرؤ على التبليغ عنه، ولكن حين بلغ تأثر البنت الكبرى بما يحدث حد محاولة الانتحار، طلبت الطلاق، وبدأت معاناتها مع رجل يرى الناس فيه تاجرًا ناجحًا يخاف الله، ويتقي فيه أهله، وجيرانه، عاب الجميع سلوكها، وانتقدوا إصرارها على هدم بيتها، وتشريد أبنائها، ولكنها لم تستسلم.

حكت لنا قصتها، وأخبرتنا بأن المقربين منها لا يصدقون كيف أن امرأة اجتماعية الطباع مثلها تفشل في لم شمل أسرتها.

«حللت الكثير من مشاكل الإدارة في الكلية، ووفقت بين آراء متناقضة تمامًا، وتدخلت لإصلاح ما ساء بين الكثيرين، وصار يقال عني إنني حلالة مشاكل، تخيلوا ردة فعل الناس عندما سمعوا بدعوى الطلاق!«

لم ترتح رزينة لقعدتها في البيت، افتقدت جو العمل، وأخبرتنا ذات يوم بأنها شرعت في البحث عن وظيفة.

فاتحت مسؤولة الجمعية النسوية في الأمر، ووعدتها المرأة خيرًا، ولكنها لم تستطع تلبية مطلبها في الحال، اقترحت عليها صديقتنا التي تعمل بالتعليم أن تجرب حظها في المدارس الخاصة، فالطلب شديد على مُدرّسي اللغات.

حالفها الحظ، وعملت في روض أطفال ظنته في البداية تابعًا لإحدى البعثات الثقافية الأجنبية، ثم لم تلبث أن اكتشفت بأنه مغربي مائة بالمائة، وإن كانت مناهجه، وطرق التدريس فيه، واللغة المستعملة داخله، توهم زبائنه بالعكس، عينت مساعدة لإحدى المدرسات، قالت لها المديرة إن شهادتها الثانوية القديمة، وسنوات عملها في كلية الطب لا تهمها بتاتًا، وأن ما دفعها لتوظيفها هو تحدثها الفرنسية بطلاقة، وأخبرتها أن ثمة مجموعة من القواعد لا يسمح بانتهاكها داخل المؤسسة أبدًا: لا حق للأطفال، ولا للمدرسات بالتحدث بغير الفرنسية، لا إمكانية لمعارضة قرارات الإدارة، من غير المسموح به التساهل مع الصغار، ولا التعاطف معهم، رزينة حكت لنا العجب مما يدور داخل ذلك الروض الراقي الذي لا يتردد عليه سوى عِلْيَة الناس: «يدفع الأهل أقساطًا خرافية، وتوصل السيارات الفاخرة الصغار في الصباح الباكر، ولا تعود لأخذهم سوى في وقت متأخر من المساء، أغلب الأولياء مُدراء شركات، ودبلوماسيون، ورجال أعمال، وأطباء، ومهندسون لا وقت لديهم لتفقد ما يحدث في الروض..المعلمات يرهبن الصغار بطريقة فظيعة، لا يسمحن لهم بنطق كلمة واحدة بالعربية، كذلك أسماؤهم عليهم تهجيها باللكنة الفرنسية، وإن أخطأوا فالعقاب علقات ساخنة، وحبس، وحرمان من إحدى وجبات النهار، الأكل حسب الإتيكيت، والمشية حسب الموضة، والجلوس، والوقوف، وحتى التطلع إلى الناس حسب ما ترى الإدارة أنه آخر صيحات اللياقة، والسلوك الأرستقراطي.

العمل الذي أمارسه هناك يشعرني بالغثيان، لا أدري إن كنت سأستمر معهم...».

عرفت حياة رزينة تحولاً فجائيًّا بعد ذلك، تخلى زوجها عن عناده، ومنحها الطلاق، ولم تلبث أن فهمت سر تحوله العجيب، فقد قرر أن يتزوج امرأة أخرى، انهارت الابنة الكبرى، وهربت إلى بيت إحدى صديقاتها، وتذبذبت دراسة الولدين، وقدمت رزينة استقالتها من الروض، وانتقلت وأولادها للعيش في الدار البيضاء.

تركت لنا رقمًا، ولم تكن حاضرة دائمًا على الخط، لم ننسها، مازلنا كلما تقابلنا في الجمعية نتذكر حكاياتها، وندعو لها بالخير والتوفيق.