تقدموا.. تقدموا.. وانضموا للصف


في حفلة  الكلام العادي أُشعلت كل شموع التفاهة، ونفخ السأم أنفاسه الفاترة في كعكة الأطماع الصغيرة، ووُزِّعت قطع الكعكة، فلم يرض أحد بنصيبه.

«تقدموا.. تقدموا.. وانضموا للصف»

هكذا قال منادٍ، فتزاحمت الأقدام، وتدافعت الأكتاف، وسقطت بعض النسوة المتقدمات في السن، واشرأبَّ القصير محاولاً أن يرى من فوق الأكتاف، وسرى همس كالهدير من الصف الخلفي يتساءل: إلى أين نحن ذاهبون؟ وماذا نحن آخذون؟

ووصل الهدير من الصف الخلفي إلى الصف الأمامي باعتباره الوحيد الذي يرى، فكان الرد:

 

«لا ندري، فقد نادى المنادي: تقدموا فتقدمنا، وانضموا للصف فانضممنا، عسى أن يكون لنا نصيب فيما لا ندري.. صابونة.. تذكرة لمباراة كرة.. أو قطعة لحم في رغيف..».

ومن الخلف للأمام تساءل الطابور:

«ولكن ماذا ترون أمامكم؟»

فجاء الرد من الأمام للخلف:

«لا شيء، إنه رصيف طويل، في شارع خالٍ، بيوته بلا نوافذ وأشجاره رمادية».

ومن الخلف للأمام ومن الأمام للخلف استقر الرأي وانعقد العزم على مواصلة المسير: «ما أدرانا، ربما وزعوا علينا سجائر أو حلوى، فلم ينادِ المنادي عبثا».

هكذا قال أحدهم، وكثيرون غيره قالوا كلاما بنفس المعنى، ولكن واحدا منهم اعترض:

«وما أدراكم أن المنادي لم يكن عابثا؟»، أليس من الممكن أنه كان يتسلى بنا، وأنه لا شيء أمامنا إلا عراء ممتد؟»..

وتصدى لهذا المتشكك عدة مؤمنين بجدوى السير وطامعين في مكافأة أو ثمرة.. حبة برتقال حتى.. قال بعضهم:

ما دمت تظن أن المسير عبث، فلماذا انضممت للصف؟

الحق أني جائع وبلا عمل أو مأوى.. قلت ربما جاء الفرج، لكن لا أرى شيئا إلا الخواء، وها نحن أشرفنا على حافة الصحراء، فهل نواصل السير حتى ندخلها ونتوه فيها؟

ولأول مرة ينتبه السائرون –وكلهم من أهل المدينة- أنهم حقا وصلوا الضواحي وانتهوا منها على مشارف الرمل الأصفر، مخزن اللهيب والعطش والتيه.

كان لابد أن يتوقفوا، وأن يرجعوا، خاسرين متحسرين خجلين من أنفسهم، بعد أن عبث بهم لاهٍ يريد أن يضحك على حسابهم، وربما كان يسير قريبا منهم، متسترا أو متنكرا، لكن يتابع الطمع وهو يقود طابورا من الحمقى نحو سراب المنفعة والربح، «حتى وإن كان صغيرا فلا يضر».

ساروا إلى الهدف المأمول المجهول في صف واحد كرأس السهم، يعطيهم الطمع الأمل، ويبعث فيهم الأمل النشاط، ويوحدهم الهدف الواحد فلا يخرج أحد منهم عن الصف.

أما الآن فهم يعودون فرادى، مطأطئي الرؤوس، يتبعثرون في أنحاء المدينة، يتسلل كل واحد إلى بيته كمن يريد أن يختبئ، كرأس السلحفاة، مطفئا على خيبته نور الوجود، وينام.. ليحلم بطابور جديد.

تمتد اليد إلى تكعيبة العنب الذي تتدلى عناقيده في متناولها، ويظل الحالم يأكل حتى يُتخَم بالعصير المسكر، وحين يستيقظ يقوم خاوي البطن، ممتلئ القلب بالطمع.. في أي شيء: علاوة.. ترقية.. حذاء جديد.. قصعة ثريد تغطيها قطع من لحم الضأن، علاقة حب عابرة.. أو أي شيء يجده على الطريق.

يسير وحده حالما متعشما متشمما لشيء يؤكل أو يلبس، أو يتباهى به على الأقران، فإذا قيل: «انضموا للصف» هرول نحوه وانتظم فيه، دون أن يسأل إلى أين المسير، رافضا مجرد فكرة التوقف أو التمهل حتى لا تفوته الفرصة، لنيل شيء.. أي شيء، مهما كان صغيرا تافها.

وفي حفلة الوجود العادي أُشعلت كل شموع التفاهة، ونفخ السأم أنفاسه الفاترة في كعكة الأطماع الصغيرة، ووزعت قطع الكعكة فلم يرض أحد بنصيبه، لكن أحدا لم يفرط في قطعته، حتى وإن كان لا يريد أن يأكلها، أو لا يستطيع.