تلك الكتب


مؤكد أنني لم أقرأ هذه الكتب، إنني لن أستعيد ما أرغب في الاطلاع عليه مرة أخرى، أعي قصر المدة وضيق الفسحة، لماذا أحتفظ بها إذن، لماذا أبقيها على مقربة مني؟ لماذا أدعها تشغل الحيز كله؟ لماذا أفتقد أمني إذا اكتشفت اختفاء مؤلف أحتفظ به منذ مدة؟

ما أعرفه أن هذه الكتب امتدادي، صباح كل يوم أطل عليها، خلال أويقاتي أتوقف أمام الرفوف الحاملة، أمسك بالحميم منها، أنفض عنه ذرات الغبار، أقلب صفحاته مستعيدًا زمن اطلاعي أول مرة، أحيانًا أصحب كتابًا أضعه قرب الوسادة، يقضي الليل قربي، في الصباح أعيده في مكانه فوق الرف، طبعًا المعنى ليس الورق والسطور المطبوعة، إنما تلك العوالم والشخصيات التي عرفتها والنصوص المعبرة، أعرف أن تلك الكتب ليست إلا وجودي ذاته، إطاري الذي أطل منه، ومضموني.

يقلقني ما ستؤول إليه، قلت على مسمع من ابني مرة إنني سأوصي بها لمكتبة، انفعل، قلت له إنني لا أريد أن أترك لهم عبئًا، معظمها نصوص تراثية ولا تدخل في اهتماماته ولا اهتمامات شقيقته، تطلع إليَّ بحدة، قال: يكفي أن أنفاسك فيها.

 

زيارة

أسعى إلى المثوى الأبدي لوالدتي صباح عيد ميلادي، اليوم ليس من أيام الزيارة، يطلع الأحياء على الراحلين أيام الجمع والمناسبات: نصف شعبان، أول رجب، الأعياد، رغبت في خلوة، أقعد بالقرب منها، أتحدث إليها بالصمت، لا أحتاج إلى النطق، أتواصل بالأفكار، إذ يلمحني عبده الذي يأتي بمقعد، اعتاد خلال السنوات الماضية أن يتركني بمفردي، اليوم لم ينصرف، بدا مترددًا، حائرًا، يسألني عما إذا كنت أعرف شخصًا في مستشفى الصدر بالعباسية، إنه مصاب بالسل، تمكن منه الغبار الناتج من الحفر عند الدفن، سنوات طويلة أمضاها هنا، لكن المعلمين الكبار لا يعرفون الإنسان إلا إذا كان عفيًّا، قادرًا، قبل انصرافه ظهر المعلم، تطلع إليه معاتبًا: لم تقل لي إن البك جاء للزيارة، يبدو عبده مرتبكًا، يقول المعلم: تعيش وتفتكر، ثم يقول متسائلا: عما إذا كنت أعرف أي مسؤول في المحافظة؟ يشير إلى الجهة البحرية، يقول إن صاحب الحوش المجاور مستشار ذو نفوذ، قرر أن يبني سورًا مرتفعًا، هذا السور سوف يسد النافذة، أشار إلى النافذة التي تتوسط الجدار البحري، قال إن هذا سيسد الهواء عن الحوش، المستشار يهدد الجميع بنفوذه، ولن يوقفه إلا مسؤول من المحافظة، كرر متسائلاً: لن يرضيك طبعًا أن يسد الهواء ويمنعه؟

 

وحدة

الصالة الرئيسية في بيت صاحبي الباريسي، أجلس في مواجهة شابة جميلة، زوجة المسرحي الطليعي، عيناها فسيحتان، تحدقان إليَّ حتى لحظة تدويني هذا، هل تتبقى النظرات إلى ما بعد الانقضاء؟ ربما تكون العيون وما ترسله آخر ما يفنى، كما أن الأصوات أول ما يندثر، تستعصي تمامًا على الذكرى.

مقدمتا ركبتيها مستديرتان مكتملتان، أقدم إليها الرسالة التي حملها لي زوجها، تضعها في حقيبة يدها، لم تقرأها، تسألني عن أحواله، أقول إنني لست قريبًا منه، لكنني أراه في حالة جيدة، عروضه تثير إعجابًا.

ألم يحدثك عني؟

أحاول أن أجد ما يطمئنها، أقول جملاً عامة، غير محددة، تتطلع إليَّ، لكم تبدو عيناها نفاذتين، أحيد بنظراتي، لا أحاول رؤية الأنثى، لاحت في عينيها رسالة ما، أحاول التفادي، انتماؤها إلى من أعرف يحول بيني وبين التفكير حتى، تتأنى في النظر، تقول بإنجليزية واضحة:

 

«هل يمكنك أن تخبره برسالة من كلمتين؟»

«طبعا.. طبعا»

«أخبره أنني وحيدة.. وحيدة جدًّا..»

ثم قالت بعد لحظة صمت:

«إنه لا يتصل بي، لا يكتب، لا يسأل عن ابنته..»

ثم قالت بحدة: « قل له إنني وحيدة.. إنني شديدة الوحدة..»