«في عواصف الأمومة»

«لن أسميكِ امرأة.. سأسميك كل شيء».

محمود درويش

 

 

في أتونها تتوهج الحياة بحقيقتها الأهم، وتنتشي بالأعمق في نشأتها وبقدرتها اللانهائية على البعث والبقاء والتجدد.. بل هي الحياة بفصولها وطقوسها وتضاريسها المتعبة والمفرحة والمغدقة، الراحلة والمستقرة، وكافة تقاويم الغلالات.

في تجربة الأمومة أبواب تفتح مصاريع الأسئلة على أعنتها، فبحكم كونها التجربة المتكاملة الأهم والأصعب، تظل الموقف المحير لفيلسوف العالم، وطبيبه، وأستاذه، وفلاحه، وقبل كل هؤلاء لإنسانه، حول القدرات الفائقة لبعث التجربة من سكونها الظاهري، إلى أرض الصخب والصيرورة والشقاء من جديد.

لماذا نعاود نحن النساء الأرضيات والمتخيلات والمتواجدات في الفكرة واللوحة والمنحوتة والأسطورة، دومًا من حيثُ الأشقى والأكثر تعبًا، رغم كل تعاويذ الألم، ورغم اعتصار الروح في قارورة الأرض عدة مرات؟ ولماذا نعيد نسج الروح أهزوجة وأغنية وأطروحة للفكرة، وقصة قصيرة وترويضة أطفال؟ ولماذا يعتصرنا ألم العالم مجتمعًا، في اللحظة الواحدة مئات المرات، إثر كل صرخة أو دمعة أو مرض أو تجديفة، سواء كانت مع أم ضد التيار، في أي من دروب تلافيف الحياة، ثم نحن مرة أخرى، ونعاود التجربة التي تعارفت جداتنا على تسميتها بالمنسية.

لأننا، وبحسب تقاويم الحضارات، ننغرس عميقًا في البحث «عن ثبات الكون»، و«ديمومة الحياة ومقوماتها»، والتي لا تتحقق إلا بالعودة دومًا إلى مركز الدائرة، أفي أتون النار تتخلق الفكرة الآمنة، ومن تضاريس الليل تنبلج الشموس؟ نعاود الكرة من حيثُ الفرح ينشر نفسه عميقًا على الطريق ذاتها التي شيدتها التجربة الأقسى من عمر كامل التجربة.

لكم تمنيت أن أحادث كل نساء الأرض، منذ الفكرة والميثولوجيا إلى كل هؤلاء الشقيات المترفات بالشقاء والأمومة إلى حد الثمالة، عن منطق العودة إلى حيثُ كنه الزلزال الذي يفجر فيهن وجه الأرض، لتحبل الدنيا بالأعاصير والنوى، وتلد الشتاء مواسم وأفراحًا وقمحًا وثمارًا كثيرة.

ولم يكن مستغربًا ولا ناتئًا أن قام كل النشوء والاستقرار عبرهن، فهن المعتادات على البناء والحفر طويلاً، واحتمال كل ما بوسعهن لرفع السقف الإنساني عاليًا نحو سماء الفكرة.. غير المتوقفات عند حد أو ألم.. والباقيات على جمر الفكرة والتجربة والمحاولة حتى آخر مدى.

ومع التصاقهن المبكر بفعل الخصب الأبدي، من زراعة وحراثة وري واخضرار، كامتداد طبيعي لفعل الصيرورة الدائم، فيما يعيش الإنجاب على الجانب الآخر للفكرة الأخاذة، التي تقوم إلى شمس البزوغ الآتية على هيئة كل النموات القادمة، كمقدمة طبيعية للوفرة، لتشكل المظاهر التي صاغت خطاب البشرية الأبدي، ولتعتبرها العقائد القديمة من مسؤوليات آلهة الأمومة والخصب، ولترفعها الحضارات المختلفة إلى مصاف الآلهة التي تسير خارج إطار التقاويم البشرية، ولا تتوقف عند حدود البشر.. أليست الفاعل الرئيس لفعل اخضرار الأرض والروح؟