رفقًا بنا

زوجي وفيّ لثلاثة أشياء في حياته: تدخين الشيشة اللعينة، والجلوس على أرصفة المقاهي مع رفاقه لمتابعة دوريات كرة القدم، وقناة الجزيرة، وهذه الأخيرة أصبحت كالضرة التي تقاسمني فيه ليل نهار، وتشاركني فيه كل اللحظات، حتى تلك الدقائق الضئيلة التي أحاول أن أقتنص صفاءها معه، لأكلّمه عن أخبار البيت والأطفال، وتذمري من بعض الجيران، تزاحمني عليه، كمصارع ثور إسباني، ولا تمل، وأود لو كان بإمكاني أن أعلن حالة استنفار دولي وإقليمي ضدها، وأزج بها في معتقلات «غوانتانامو»، حتى لا تهتم بالمطبخ العربي، ولا بوصفاته التقليدية والمبتكرة، ولا ببهاراته المشكلة ألوانًا وروائح وأصنافًا.

سيد بيتي، أصبح في حالات نفسية مركبة، فقد كان يمشي على العجينة «لا يلخبطها»، أصبح يمشي عليها «يلخبطها»، السياسة كانت كشبح يخافه ويغني له كشر من بعيد، حتى ظله المسالم كان يمشي خائفًا منه، لا له ولا عليه من غول السياسة، أصبح بين ليلة وضحاها، يلعلع فيها، ويزغرد بالتفاصيل.

لديّ زميلة، من كثرة زيجاتها الفاشلة، لقبت نفسها بـ«عيادة الحياة الزوجية» ورجت منَّا ألا نتهاون في طلب مشورتها، كلما اشتد علينا الأمر مع أزواجنا، فقصدت مساعدتها في هذه التي غيّرت مجرى حياتي الزوجية، بادرتني بالإجابة مباشرة بعد طرح سؤالي عليها، واستغربت هل رأسها فهرس كتاب، فلم تمنح نفسها ولا برهة تفكير: «يا ابنتي، احمدي ربك، الجزيرة منا وعلينا، زوجي الرابع والأخير كان مبتلى بتصفح مواقع (هز وسط وفضائح)، اسمعي، اجعليها ليلة رومانسية، وزعي الأولاد عند حماتك وأمك، وارتدي له فستان سهرة، واطلبي منه أن يغلق أزرار التلفاز، ثم التفتي إليه بسرعة، وركزي نظراتك في عينيه، واسبحي فيهما كعاشقة، مع شيء من التغنج والدلال، وجربي هذه الوصفة لأيام متتالية! ماذا قلت، لأيام متتالية؟ والله فيلم هوليودي، بغلق الأزرار هذه، وأتدلل عليه، يا صبر أيوب! أبعد ولادة أربعة أطفال أستصغر نفسي وأتدلل؟ يا مغفلة، الجزيرة مثبتة مخالبها ومتمكنة من أسلحتها، وأنت كما أنت، لو كنت ذبحت القط أول يوم لكنت ارتحت، وأدرت وجهي عنها، وتركتها في عقلية القطط التي تعشش في رأسها، وغرقت كالنعامة في تصفح ملفاتي.

مساء اليوم التالي دخلت عليه أتغنج.. وأتدلل كمتصابية، وأدندن بكل ما وقع على رأسي من أغنيات، عله يلتفت التفاتة، أو يلمح بإشارة، ولكنه لا التفت ولا اهتم إلى هذه الآتية تتمايل في فستانها الأحمر الجديد، «الرجاء الشيشة يا مديحة!»، «تقصد الشيشة بلون فستاني هذا؟»، سألته عساه ينتبه، لكنه رماني بنظرة خاطفة، وقال: «فستان جديد وجميل، وهل تغفلين عن لون الشيشة؟»، ثم عاد للحملقة، وأنا لم أحرك ساكنًا، أنتظر ردة فعل تواسيني وتعيد لي ثقتي بنفسي، لكن عوض ذلك أسمع منه «النساء شرّ لا بد منه»، وقفزت إلى الباب عائدة إلى غرفة نومي، قبل أن يلسعني كلامه كذلك، وعدت أدراجي أنزع عني الفستان، وألعن من وقف أمام ليلتي الرومانسية، ولففت الفستان بكل عناية ووضعته في علبته، لأعيده إلى بائعه من جديد.

مضت حياتي بعدها كئيبة، روتينية، كأننا أخذنا على أنفسنا عهدًا بأن «خير الكلام ما قل ودل»، فعالم زوجي مقسم بين الشيشة وكرة القدم وقناة الجزيرة، وعالمي بين الوظيفة والأطفال.

واستسلمت من يومها لأمري، ورضيت أن أعيش مع ضرتي هذه مع سبق الإصرار والترصد، إلى أن بدأ ابني يولع بقناة للأطفال، لقد احتكرا التلفاز وصالة الجلوس، يبدأ الابن الدوام، ليكمله أبوه، مساءً، والمسكينة الأم عليها أن تشاهد برامج الطبخ في الأحلام، واليوم أقول لك وجهًا لوجه «قد بلغ السيل الزبى»، وأنا أطالب بقناة للطبخ والمرأة، حينها ستكون ضرتك راضية عنك؛ لأنك ستظهرين لي أنك تحترمين إرضاء «الرأي والرأي الآخر»، فأنا تحملت جنونك، وهفواتك، وشجارك، وصياحك، واستفردت بزوجي وابني، ولم يحسم الفستان الأحمر المنافسة بيننا.