سيل الرجال!


(السيل كان رجلا آخر إغتال حياتي. ما أكثر الغيلان عندما تكون الضحية امرأة.)

 

أم علي، التي اطاحت سيول جدة بآخر معاقلها من أزمنة اليباب .. لم تكن حالها هكذا في أول مشوار حياتها الزوجية. كان زواجها تقليديا .. ولكنها أحبت زوجها. لم يكن متعلما، بكل ماتعنيه الكلمة، فقد كان ريفيا أميا، يعمل سائقا لدى مؤسسة مقاولات صغيرة بجدة، ثم حظي بوظيفة في شركة صناعية كبرى وانتقل للعمل والإقامة في مجمعها السكني الحديث بينبع.

لم تكن أم علي تؤمن أنها سيئة الحظ مع الرجال، حتى عندما تسترجع وفاة والدها وهي رضيعة، واستيلاء عمها على مقاليد الأمور. فرغم أنه كان سيئا في تعامله معها وأخيها وخاصة مع أمها، حتى أنه تسبب في موتها بعد مشادة، إلا أن بقية رجال العائلة كانوا نعم الرجال.

لم يتغير حالها كثيرا بعد أن ماتت طفلتها الأولى بخطأ طبيب لم يهتم لخطورة الحالة فصرفها بأسبرين .. فقد عوضها الله بابن، ثم أبناء وبنات. لكن الوضع تدهور كثيرا بعد أن وقع زوجها في براثن المخدرات. فغير سوء المعاملة، وسوء التربية للأبناء، تصاعد التقصير في الواجبات الزوجية والمنزلية.

تقول: (لم يكن سيل جدة أول سيل في حياتي، فقد سبقه سيول وسيول. ولكن أقساها كان انهيار سد الزوجية الذي، رغم المعاناة، حفظنا كأسرة واحدة عمرا، فقد وجدت نفسي بعد أن وقع زوجي في قبضة مكافحة المخدرات وسجن، وفقد بسبب ذلك عمله المستقر، أبحث عن مصدر رزق لأبنائي فلا أجد إلا الكفاف. ولأني كنت في منطقة نائية بعيدا عن من تبقى لي من الأقارب فلم يكن أمامي إلا أن أكشف المستور لهم وأطلب المساعدة. خرج زوجي من السجن أسوأ من حاله قبله. فقد عاد إلى حياة التسكع ولكن بلا عمل ثابت ومكانة عملية مشرفة. وبدلا من أن يكافئني على صبري وتحملي لغيابه طلقني وتركني مع أولادي بدون نفقة وتزوج فتاة صغيرة هربها عبر الحدود الجنوبية بلا حتى إقامة.

تخلى أخي عني، رجل آخر يدير ظهره لي، حتى لا يتحمل مصاريفي ولا يضايق زوجته. طالبته بنصيبي من إرث والدي، بيتين شعبيين في وسط جدة، فرفض، واستغل الوكالة التي بيده ليستولي على كل شيء. كان باستطاعتي أن أرفع عليه قضية، وقد وجدت من يحرضني على ذلك، ولكن إمكاناتي لم تساعدني وقلبي لم يطاوعني أن أقاضي شقيقي الوحيد.

عدت إلى جدة .. وسكنت في قويزة، وعملت في مدرسة بوظيفة لا يتجاوز راتبها الثمانمئة ريال، ومع مساعدات أهل الخير، استطعت أن أفتح بيتا وأدخل بناتي المدارس. أما أولادي فقد سافر أحدهم إلى الشرقية ليعمل في وظيفة صغيرة، ووقع الثاني في براثن البطالة و .... .

حمدت الله على كل حال، فقد كان الأمل في الله أن يرزق بناتي بعرسان، وأن أنتهي إلى بيت إحداهن، جدة لأبنائها. وأن يتحسن الوضع المادي والوظيفي لأبنائي، رغم ضعف تعليمهم، ويتزوجوا، ويفتحوا بيوتا. وأقضي ماتبقى من حياتي بين بيوتهم وأحفادي.

حمدت الله أن لي رغم كل شيء قلعة ألجأ اليها آخر النهار تحفظني وبناتي وتستر علينا حتى يحكم الله فينا وهو خير الحاكمين.

ثم جاء السيل .. ثم جاء السيل ..

أم علي تقف اليوم على بقايا بيت أغرقته سيول جدة الأخيرة .. ذهب الماء بكل شيء. تبحث عن ملابس تسترها وبناتها فلا تجد. تبحث عن قطعتين من الذهب من «ريحة الوالدة» فلا تجد. تبحث عن فرش ينامون عليها فلا تلقى إلا الطين والبلل.

تتذكر أن أخاها لم يسأل عنها ولو بإتصال ليطمئن على حالها بعد الكارثة، فتبكي. وتذكر وله ابنها الذي اتصل من الشرقية ليرجوها أن تذهب اليه، فتبتسم. ثم تتذكر أن المدرسة تنتظر البنات وتنتظرها، وأن ابنها بالكاد يقوم بنفسه في سكن العزاب، وأنها لا تملك حتى مصاريف السفر بالبر فتبكي من جديد. 

قررت أن تقدم طلب معونة وإيواء رغم صعوبة ذلك في ظل عدم توفر بعض الوثائق المطلوبة، كعقد الإيجار، الذي ذهب مع السيل ..

أم علي قصة يتيمة .. قصة مطلقة .. قصة أم بلا سند .. لولا أنني تابعت مسيرة حياتها عن قرب لحسبتها من نسج الخيال .. ورغم أنها ضحية رجال بلا رجولة، إلا أنها لاتزال تحلم بزمن يحكم بيتها فيه رجل .. أو ظل رجل .. ليمسح من ذاكرتها ظلم الرجال.