أنانية


لم يكن الوقت متأخرًا، بالكاد الثامنة والنصف مساءً، أو ربما التاسعة، أصرّت أمي على أن نستريح بعد الغداء، وامتدت القيلولة حتى بداية المساء.. عباس كان مرهقا، وأنا انغمستُ تمامًا في جلسة النميمة التي جمعتني وأخواتي.. استشاط غضبًا حين انتبه للوقت الذي أمضاه في السرير.. موعد الاجتماع الذي يحضّر له منذ أيام اقترب.. لم أقل شيئًا، تركته يتحايل بنفسه على أمي ليقنعها باستحالة بقائنا لتناول العشاء.

«معقول؟ تركتني أنام خمس ساعات ونصف الساعة؟ ماذا أقول للناس؟»

منذ أن ركبنا وهو يكرر نفس السؤال..حاولت أن أشرح له كيف سارت الأمور، واحتد صوته والانفعال يغالبه، وتظاهرت بالاستسلام.. لم أكن جادة فيما أقوله.. علمتني الحياة أن أسايره، وأنفذّ ما بذهني، وأنحني للعاصفة، وأدعها تمر فوق رأسي، وتهدأ.

كنا نسير بسرعة جنونية.. مضى على بدء اجتماعه ربع الساعة.

«إن انسحب الضيوف ستكون كارثة! لن أُعتب دار أمك ثانية!»

لم يكن جادًا.. عباس لا يقدر على إيذاء نملة، فكيف بجرح أحاسيس أمي؟

 اجتماعه المهم لم يكن يعني لي شيئا.. يقضي حياته في التنقل بين البلدان، وتسول المساعدة من الشرق والغرب.. ما يهم إن خسر بضع شيكات هذه الليلة؟

«ما كان عليّ أن آخذك معي...»

أصررت على مرافقته للرباط لأزور أمي.. تناولنا الغداء عندها، وكان يفترض أن نعود مبكرًا بعد الظهر إلى الدار البيضاء.

«حاذر...» صرخت فيه وأنا أشعر بالبوجو الجديدة التي لم يمر شهر على حصولنا عليها تحيد عن خطها، وتهتز بطريقة غير عادية.

«مجنون!» صاح في سائق المرسديس الداكنة التي حاولت تجاوزنا، وسد الطريق عليه. كلتا السيارتين تبلعان الكيلومترات بسرعة مخيفة.. بدأ الرعب يدب في أوصالي.

«نريد أن نصل سالمين، دعه يمر» قلت له، ولم يرد.

واصلت السيارتان المناورة، وتشبثت بمقعدي، وأنا أرتجف.

لم يسبق لي أن خفت أثناء ركوبي معه.. قيادته محل ثناء الجميع.

شعرت ببسمته الباردة دون أن أراها.. لم تستطع عيناي أن تحيدا عن الطريق.

«تذكر اجتماعك...» قلت له، «إن حدث لنا مكروه لن تكون هناك.. ولن ينتظرك ضيوفك«.

«الآن تكترثين لاجتماعي...» رد بتهكم، وضحك.

 نعم ضحك.

عضضت شفتي من الغيظ، ولم أجد ما أدافع به عن نفسي.. لقاؤه بمبعوثي لجنة الكوارث التابعة للاتحاد الدولي للصليب الأحمر لا يعني لي شيئًا.. يحضر عشرات الاجتماعات كل شهر، ويحصل على ما يحتاج إليه مكتب الهلال المغربي من شيكات، وأدوية، وملابس، وأغطية، ومواد غذائية.. عمله التطوعي الذي كان يبهرني في البداية صار يثير ضجري، وحنقي.. سفر دائم، ومواعيد كثيرة، وانشغال بالليل والنهار.

أين أنا وسط كل هذا؟

«تبا لك ولمن منحك رخصة السواقة!» صرخ بعصبية في وجه السائق الذي كاد يدفعنا نحو حاجز الطريق الحديدي.. تمالك نفسه بعد ذلك، وتنحى بالسيارة، وترك خصمه يمر.

«أرعن!» أطلق في إثره الشتيمة التي لم يسمعها غيري.

لفنا الصمت لثوانٍ، قطعتها رقصة المرسديس المرعبة في السماء.. ظننت قلبي انخلع من مكانه.

فوجيء سائقها بمنعطف أفقده السيطرة على سيارته.. طارت العربة كلعبة أطفال، وانقلبت في الهواء، وسقطت على رأسها أمتارًا بعيدة في جانب الطريق.. تشبثت بمقعدي برعب وأنا أتلو الشهادتين.. خفف عباس السرعة، وشهق وهو يحاول بكل خبرته السيطرة على البوجو.. اهتززنا، وصفرت الفرامل بحدة، وتوقفت السيارة أخيرًا على الجانب الأيمن. وقفز زوجي منها قبل أن أفهم ما يحدث.

التفت خلفي.

عجلات المرسديس المقلوبة تدور بسرعة، وأضواؤها تثير غمامة كثيفة من الغبار المنبعث من حولها.. عباس ينحني ويحاول فتح بابها.. دارت الدنيا بي، ولفني الظلام.

قطرات باردة أيقظتني.. فتحت عيني، وكاد يغمى عليّ ثانية، وأنا أرى زوجي ينحني عليَّ ويرشني بالماء.

«هيا، هيا.. كل شيء بخير.. السائق على قيد الحياة.. سيارة الإسعاف في طريقها إلينا...»

«أنت مجنون؟.. وبخته.. تذهب إليه؟ ماذا لو انفجرت السيارة؟».

«أنا رجل إسعاف» قال لي.. «هذه مهنتي»

شعرت بأنني صغيرة.. وخجلت من نفسي.