حرية ملغومة


كنت من أشد معارضي ارتباط أخي أكرم بكلوديت، أستاذته السويسرية في الجامعة، ولم أكن وحدي من رفض هذا الزواج، استهجن والداي أن يقترن بسيدة تكبره عمرًا، وتفوقه خبرة في الحياة، وترفض أن تعتنق ديانته، وتمتثل لعادات وتقاليد أهله، واستنكر أعمامي إصراره على فضح الأسرة، وتمريغ اسمها في الوحل.. حدثته، وحاولت أن أفتح عينيه على أمور لم يكن يراها حينها، كلوديت تعيش على النمط الغربي في بلادنا، تصادق الرجال، وترتاد أماكن السهر، وتدخن، وتشرب، وتلبس ما يحلو لها، وتتصرف بحرية مستفزة.

كيف «سيلجم» كل هذا النشاط؟ هل سترضى حبيبته بأن تتصرف كامرأة متزوجة، ومسؤولة؟ هل ستفهم ما يعني ذلك؟ كيف سيكون موقفها من أعيادنا، ومناسباتنا الدينية؟ هل ستصوم رمضان إكرامًا له، واحترامًا لأهله؟ هل ستحضر ذبح أضحية العيد الكبير، هي التي تعارض أكل اللحوم، وتناضل من أجل ترويج الريجيم النباتي؟ وكيف سيربيان أطفالهما؟ هل سيشجعهم على اعتناق عقيدة معينة، أم سيتركهم تائهين يبحثون عن خلاص أرواحهم بأنفسهم؟!

صمّ أكرم أذنيه عن أسئلتي، وأعلن أنه تجاوزها من زمان، لم تعد شكليات حياتنا المتخلفة تعنيه، هو وكلوديت شخصان بالغان يحترمان بعضهما، ولا يريدان أن يضغط أي منهما على الآخر ليجبره على الدخول في قالب يرفضه، كل منهما حر في أفكاره، وآرائه، وممارساته، سيربيان أطفالهما في جو صحي، وديمقراطي يكفل لهما اختيار ما يرونه يلائمهم من معتقدات، وعادات، وأفكار، سيجمعهما الحب، والتفاهم ولن يفرقهما شيء آخر.

كلمات جميلة كذبتها الأيام في أقل من عام بعد محادثتنا.. توفي أكرم في حادث مفاجئ، وافترق الحبيبان.. كانت كلوديت حاملاً، وقر عزم الأسرة على أن تقنعها بأية طريقة بأن تترك الطفل لها، كانت أمي تندب أخي صباح مساء، وتتوسل لرجال العائلة لكي يأتوها بابنه لتربيه على ديننا، وتُكفِّر عن إثم أكرم.. لا أدري لماذا كان الجميع متأكدًا من أن الجنين صبي، لم تقل كلوديت شيئًا، ولم تقبل بأي من الحلول المعروضة عليها للتخلي عن طفلها، وضعت ريان، ولم تمنعنا من رؤيته، وزيارته.

 منحته اسما مقبولا في المغرب وأوربا، كان ذلك التنازل الوحيد الذي قدمته لنا.

كبر ريان في كنفها، أصبح ولدًا جميلاً، أسود العينين، داكن الشعر، لم يرث عنها سوى بشرتها البيضاء الشاحبة، شبهه الكبير بوالده زاد من حدة ألم فقده، لم نكن نراه كثيرًا، انتقلت إلى الرباط فترة بعد الولادة، وصار لزامًا علينا قطع المغرب طولاً كلما رغبنا في زيارة الصغير، والدي الذي شاخ قبل الأوان لم يكن يتكلم بشيء، كان دائمًا قليل الكلام، وبعد وفاة أكرم صار شبه أبكم، يتحدث عند الضرورة القصوى، ولا يبدو مكترثًا بما يحدث حوله.

أمي على عكسه لم تكف عن الندب، والبكاء، تطلب المغفرة، والعفو لابنها عشرين مرة في اليوم، وتبكي، وتلعن كلوديت، وأهل كلوديت، والريح التي أتت بكلوديت...

أعمامي نفضوا أيديهم من الحكاية، قالوا إن ما حصل قد حصل، ولا فائدة من اجترار الماضي، انشغلوا بأسرهم، وأعمالهم، وصاروا يتهربون من مرافقتنا إلى الرباط، إحدى نساء العائلة أسرت إليَّ بأنهم يخافون على بناتهم من ريان الذي أصبح مراهقًا، يخشون أن يحط عينيه على واحدة منهن، ويثير خصومات بين العائلة، إذ لن يقبل أحد أن يفضح نفسه بمخالطة عرق أجنبي.

ريان صار فعلاً شابًا، وأي شاب! طالت قامته، وتقوت بنيته، وتغير شكله تمامًا، تغطى وجهه بالبثور، وامتلأ شعره الدهني بالأوساخ، والقشرة، وتمزقت ثيابه، وضاقت، أمه المشغولة بحياتها التي لا نعرف عنها شيئًا لم تكن تمنع عنه أي محظور، تركته يصبغ جدران غرفته بالأسود، ويزينها بديكور مخيف: رؤوس موتى، ووجوه مشوهة، وحراب، وأسلحة من كل الأشكال والأنواع، وجدناه يدخن السجائر، ويتمايل على وقع أنغام موسيقى هارد روك صاخبة، لم تكن تنقصه سوى الأوشام، وأختام اللسان، والحاجبين لتكتمل الصورة، رفضت كلوديت أن تقلق عليه، قالت إن من حقه أن يعيش عمره، ويمر بتجاربه الخاصة.

فكرت في أن أطلب منها أن تضع على الأقل قضبانًا حديدية على نافذته، فالجو الذي يسود غرفته يغري بالانتحار.

لكنني لم أنبس بكلمة.

شعرت بأن الولد ضاع كما ضاع والده من قبله.

رحلة العودة إلى مدينتنا كانت حزينة.