عندما وصلت الجمعة، كانت قد تناولت الجرعة الثانية من العلاج، مثلث التركيب منذ ثلاثة أيام سيظل ليوم الثلاثاء، معلم مغاير لكل ثلاثاء مررت به منذ خمسة وستين عامًا، مدة سعيي في تلك المفازة التي لا يعرف أحد أولها من آخرها، تستعصي بأيامها، وأمكنتها على الاستيعاب.
الثلاثاء في المستشفى تجري اختبارات لا أعرفها، تدخل إلى غرفة صغيرة، تتمدد فوق سرير، تغمض عينيها بتأثير المخدر، أو المهدئ الذي ينفد مفعوله مع نهاية الجرعة التي تتسرب إلى داخل الجسم نقطة إثر نقطة عبر جهاز صغير يدفع السائل وفقًا لترتيب متقن، ولتفاصيل هذا السائل أمور عديدة ربما أُفَصِّلها فيما بعد، غير أنني أوجز فأقول إنه يتخلل الجسد متخذًا طريقه إلى الخلايا المختلة، يدمرها، يبيدها، غير أنه يطال أخرى سليمة، من هنا آثاره العنيفة، أصعب مراحل العلاج ما يعرف بالكيميائي، غير أن الطبيب المصري الذي تعاملنا معه قبل قرارنا بسفرها كان يطلق عليه تدليلاً، أو اختصارًا «الكيمو»، كان يقول: وبعد «الكيمو»، وعندما تأخذين «الكيمو».
عندما وصلت إلى نيويورك كانت آثار الجرعة الثانية في مرحلتها الأخيرة، لم أشهد عنفوانها، مدة مكوثي عشرة أيام، أي أنني سأطير عائدًا إلى القاهرة الأحد على رحلة مصر للطيران المباشرة، أي أنني لن أذهب معها إلى المستشفى، ضقت لهذا الترتيب غير المقصود، غير أنني خففت من تأثير ذلك بتذكري ضرورة بقائي في القاهرة لتيسير الأمور، ولتوفير التدبير، ثمة أوراق لابد أن تتحرك ثم تتابع أعمال ارتبطت بها لضرورة الحال.
اليوم سبت، اقترحت أن نخرج إلى الشارع، أن نرى الناس، الحركة، خاصة أن رأس السنة قريب، الاحتفال به ملحوظ هنا، له شأن، في العام الماضي اكتملت الأسرة، خرجنا نحن الخمسة: ماجدة، محمد، ماجي وزوجها أحمد، وأنا إلى مطعم قريب من البيت يديره مهاجرون ألبان، كل من قابلناه في العمارة أو الشارع، وبالطبع في المطعم، كان يبادرنا قائلاً: «عام جديد سعيد..».
احتفال بالحياة لدى الجميع، الفقير والغني، من حارس العمارة إلى سكانها، بهجة بقدوم وقت قدر للجميع أن يبلغوه، بهجة لم نعد نعرفها في بلادنا، حتى أعيادنا تمر هادئة، خلوّ من الفرحة القديمة، دائمًا أتساءل: هل تغيّر الواقع أم نحن الذين تغيّرنا؟
لا أدري، لا يمكنني القطع، تمامًا كجهلي العام الماضي بما ستصير إليه أحوال رفيقة عمري، لا أعرف ما ستصير إليه أحوالنا العام القادم، أين وكيف؟ أسئلة ستظل عالقة بدون إجابات قطعية، حقًّا، {وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأيّ أرض تموت}، قانون كوني للوجود نطق به التنزيل الكريم، لنخرج، طول الإقامة في البيت خاصة مع اعتلال الظروف تكون مجلبة للأحوال الرمادية التي سرعان ما تزداد قتامة. أحكمنا ارتداء ملابسنا خاصة أغطية الرأس، الثلج يتساقط بغزارة منذ أيام، أحيانًا تصدر تحذيرات عبر التليفزيون والراديو تحذر من خروج الأطفال، وضرورة التزام الحذر، بالنسبة لنا الحذر مضاعف، خلال مرحلة العلاج بالكيماوي يضعف جهاز المناعة، وبالتالي يصبح احتمال الإصابة بفيروس –ولو ضعيفًا- مخيفًا، أيضًا لو جرى اصطدام، أو سقوط، قد يلحق أذى بالهيكل الذي تخلله السائل الحارق، الخارق، المدمر للخلايا الخبيثة، وما جاورها من خلايا سليمة، يصبح الإنسان ضعيفًا واهنًا، خرجنا من مدخل العمارة الفسيح، المضيء متجاورين، ألمس ذراعها برفق، خطواتها أقصر، أبطأ، حذرة، هكذا خطواتي أيضًا، لم ننتظر طويلاً ظهور التاكسي النيويوركي الأصفر.