كنت دائما أتخيل لحظة دخولي إلى خشبة المسرح تتبعني دائرة الضوء وعاصفة التصفيق من الجمهور العاشق للغناء الأصيل، بينما تجلس ابنة الجيران أمام شاشة التليفزيون تتابع الحفل المذاع على الهواء في كل العواصم العربية، وهي تذرف الدموع الساخنة؛ لأنها أضاعت من يدها حب العمر، ولم تلتفت الحمقاء إلى أن جارها في السكن، هو نجم الجيل وكروان الفن وأسطورة الطرب العربي، ولعلّي لم ألتفت إلى أنني أقتبس هذا الحلم من فيلم لعبد الحليم حافظ، وأن الرائعة شادية هي التي كانت تجلس أمام التليفزيون تسكب أحزانها،
وفي فيلم آخر تجلس مريم فخر الدين بجانب جهاز الراديو؛ لتبكي هي الأخرى مرارة الفراق، وفي فيلم ثالث تترك ماجدة البيانو، وعليه كلمات الأغنية «أهواك وأتمنى لو أنسـاك وأنسى روحـي ويّاك، وإن ضاعت تبقى فداك لو تنساني».. قلت لأبي أريد بيانو، نظر لي ساخرًا ولم يعقب، تجاهلت النظرة وأعدت الطلب مع شيء من الإلحاح المناسب، فأجاب أبي: «يا بني اطلب شيء معقول»، هل تعرف كم ثمن البيانو؟ أكثر من ألف جنيه! وكان هذا هو ثمنه وقتها، وكانت «ألف جنيه» في أوائل السبعينيات من القرن الماضي تساوي مرتب موظف محترم لمدة عامين.. قلت لأبي: إن البيانو مهم لمستقبلي ولمستقبل الغناء في الوطن العربي، وسوف تعرف حقيقة كلامي عندما أنجح وأصبح نجمًا لامعًا، قال أبي: ولماذا لا نشتري عودًا أو نايًا حزينًا يليق مع طبيعة الموقف؟ إن أعظم المطربين؛ عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي، يعزفون على العود وليس على البيانو، البيانو للخواجات.. واستمر أبي في محاضرته الساعية لتوفير الألف جنيه، حتى خشيت أن يحكم بتكفير العزف على البيانو، واضطررت في النهاية إلى التنازل وقبول فكرة العزف على العود رغم أنه أقل رومانسية وأناقة من البيانو الفاخر، كما أن الفتاة الجميلة التي بجانبي مستندة على حافة البيانو لا يمكنها أن تفعل نفس الشيء مستندة على حافة العود، وإلا سيتغير الأمر بطريقة تخلو تمامًا من الرومانسية. المهم وافقت على العود وبدأت أتدرب، واكتشفت المشكلة الأولى أنني أعسر وأحتاج إلى قلب الأوتار أو تدريب يدي اليمنى على الحركة السريعة، وهو ما فشلت فيه تمامًا، وقررت أن أختصر الطريق وأركز في تدريبات الصوت، ووضعت «الهيدفون» على أذني وأغلقت باب غرفتي بالمفتاح، ثم أخذت أردد الآهات في أغنية للمطرب أحمد الحجار اسمها «عود»، وزادت حساسيتي إلى درجة أنني اكتشفت نشاز عازف الإيقاع داخل الأغنية، فالطبلة تطرق طرقات متلاحقة ليست مناسبة للحن، وبمزيد من التركيز اكتشفت أن أمي تحاول كسر باب الغرفة، وهي تصرخ مفزوعة وقلقة، وعندما فتحت لها الباب وجدتها باكية وبجوارها طبيب يرتدي البالطو الأبيض ويقول بهدوء: لا داعي للقلق غالبًا هذه آلام «المصران الأعور»، وعبثًا حاولت أن أشرح لهما أنني سليم، وقد كنت فقط أتدرب على الغناء لأصبح مطربًا، ونصحني الطبيب بألا أعود لمحاولة الغناء؛ حتى لا أصاب بمرض «البواسير»، كما احتضنتني أمي بحنانها قائلة: أرجوك يا بني إياك أن تغني ثانية، أرجو أن أراك محترمًا بين الناس.. لكني لم أيأس، وتعرفت فيما بعد بالفنان أحمد الحجار، وحكيت له قصتي مع أغنيته، فقال: أنا أؤمن بقاعدة تقول: «إن أي صوت في الدنيا إذا تدرب يمكن أن يغني بطريقة صحيحة»، وهنا تشجعت وأسمعته صوتي، فقاطعني قائلاً: «أنا أؤمن أيضًا بأن لكل قاعدة استثناء»، وبالفعل ساعدني أحمد على حل المشكلة، حيثُ جاءني يومًا متهللاً، سألته: «هل وجدت حلاً سحريًّا لموضوعي»، قال: نعم.. قلت: كيف؟! قال: لقد وجدت من يشتري منك آلة العود.. الذي لم يعرفه أحمد أنني اشتريت بعد ذلك عودًا آخر من خشب الورد والصدف، لكني مازلت في حيرة: هل أقلب الأوتار أم أعدل الأوتار؟!