الشوك والصبار في خدي، منذ ذهبت صار العشب رملا، وصحو الأزرق غيما، وخدي الناعم شوكا، أهملت نفسي فلم أتعرفني في مرآتي، صرت أحنّ للذي مضى وأمقت الآتي، خرجت مبتسما للناس، فلم يبتسم في وجهي أحد، لم يصدق أحد بسمتي.
كأنهم كلهم يعرفونك يا حبيبتي، يعرفون أنه لا ابتسامة حقيقية بعد أن ضعتِ، لا لم تضيعي، أنا فقط الذي ضعت، وضعتِ أنت مني، لكنك لم تضيعي من نفسك.
ها أنت تملئين الامتداد الأزرق والمساحات الخضراء والساحات الوردية ضحكا مرحا صافيا عذبا، كأنك لم تقتليني، لم تعذبي يوما إنسانا، لم ترحلي أبدا ـ بلا سبب ـ من مكان طالما استدفأ بك، وتدفأ واستضافك للأبد.
اذهبي إذن.. سأحلق ذقني وألبس أفضل ثيابي، مازال لي قدمان ورِجلان لحسن الحظ، ويدان وأصابع تستطيع أن تشتبك مع أصابع يد ناعمة أخرى، إن الله لم يصوّرك وحدك، ولم يختصر الكون فيك، وإن كان أعطاك من الحسن قِسطا، فقد قسم على الناس من الجمال أرزاقا كثيرة، واختص به عددا من النساء يفقن حسنا ذاتك الهاجرة، المهاجرة من قلب إلى قلب، التي تخرج كاسرة زجاج النافذة، ولا تصبر على المشي إلى الباب وفتحه بهدوء.
إني أتعجب: كيف يمكن لواحدة صُوِّرت بهذه الرقة أن تكون نمرة كاسرة؟
أنت ناعمة.. كالحيّة للأسف، صوتك كاليمامة.. لكن صمتك كالسكين؛ لأنك حين تصمتين تفكرين في هجر صاحبك.
سأستحم الآن وأتعطر، وسأخرج للطريق متنسّما ما بقي من عطر الربيع، وما يتسلل من بشائر الصيف، نعم، إن بشائر الصيف تقودني للبحر، سأذهب إليه لاعنا كل ذكرياتي معك عنده.
اذهبي إذن، انضمي إلى ذكرياتي الباهتة.. كوني وجها أعتقد أني رأيته من قبل، لكني لا أتذكر متى وأين؟ كوني امرأة عادية تمر في الشارع فلا يلحظها أحد، كوني شاحبة بذنبي، كالصورة الفوتوغرافية التي عمرها نصف قرن. اذهبي من مساحة الوجود التي أشغلها من فضلك، لن ينطر خدي الشوك بعدها ولا الصبار، سأحلق ذقني، بعناية وأتطيب، وأخرج من قصتنا.
إن كنت غاضبا الآن، فعما قليل سأهدأ، لن أكترث إن كنت كسرت زجاج نافذتي، مادام قلبي صحيحا، وكأنه لم ينكسر.
سأمشي الآن شابكا ذراعي في ذراع أخرى، تحيينا الأشجار ويغرد فوق رؤوسنا الطير، إلف وإلفه من ذكر وأنثى.
سأرثي لك؛ لأنك لم تعرفي أبدا الإخلاص كما تعرفه أنثى الحمام، التي تموت حزنا إذا مات إلفها، لم تقدري وفائي وإخلاصي، فطرت عني، وطرت عنك.
أنا الآن في الطريق، أتنسّم ريح المطر، ها هي الريح ترعى قطعان الغيوم، تدفعها إلى حافة هاوية تنحدر عندها وتسقط. ها أنا أفتح ذراعي للمطر ليغسلني من قصتك كلها، يغسلني من ذنبك، من العار الذي هو أنت.
أنا وحبيبتي الجديدة تحت مظلة واحدة، نضحك للناس وللمطر، وإني أسامحك الآن.. بل أنساك تماما، أنسى أننا -أنا وأنت- وقفنا هذه الوقفة نفسها، تحت نفس المطر، يستدفئ أحدنا في الآخر، ونحتمي بمظلة كهذه، الموقف متشابه، لكن وجه الاختلاف هو أنك مزّقت المظلة، وعدوت مسرعة تاركة إياي وحيدا تحت المطر، والماء يغمر رأسي وثيابي وقلبي.
لكن حبيبتي الجديدة ـ الحقيقية ـ هي التي اشترت لي هذه المظلة، بديلا عن تلك التي مزقتها!
حتى الطفل لا يبكي إلى الأبد على لعبته المكسورة، وذكر الحمام يقتل إلفه لو خانته.. أنا لن أقتل إلا صورتك في قلبي.. بل قتلتها وانتهى الأمر!
الأنامل الرهيفة، والشفتان اللتان تبدوان دائما وكأنهما على وشك الابتسام، والموج الأسود المتهدل حول وجهك الوضّاء.. كان كل ذلك قناعك.. الأصابع ترتدي قفازا قاتلا، الشفتان تكتمان ابتسامة سحرية، الموج الأسود دعوة للغرق.
أما وجهك الوضاء فقد انطفأ في قلبي، وأشرق وجهها.