هل تصدقون يا بشر؟

كنت أعتقد أن الموت لا يأتي إلا للكبار، ولا يموت سوى العجائز، عشت سنوات طفولتي، وثبتت تلك الفكرة ورسخت في أعماقي منذ صغري، فبين سنة وأخرى، كنت أسمع بهذا الشيخ الذي مات، وبتلك العجوز التي توفّيت، وكنت أجزع مجرد أن أسمع عن الموت دون أن أعرف صاحبه. أما الآن، ففي كل يوم، وبين ساعة وثانية، بل أقل من الثانية، نفاجأ بأن من كان معنا بالأمس أو قبل لحظات، فاضت روحه إلى بارئها، وتطالعنا وسائل الإعلام ـ بجميع أنواعها ـ بأخبار الوفيات من أطفال ومراهقين وشباب دون استثناء.. وتمرّ علينا ـ حسب الموقف وشدته وحسب صلة وقرابة منْ مات ـ لحظات أو أيام قد تطول أو تقصر فتكون شهورًا أو سنوات، يكتنفنا الحزن العميق والألم المتجدد، وتموت في عزِّ لحظات السعادة، فرحتنا ولا يبقى لنا منها سوى الذكرى.

ونعيش في لحظات الفراق أيامًا عصيبة مريرة، نعيشها بصدق مع أنفسنا، ولحظتها نشعر بأن الدنيا بمن عليها وبمن فيها، لا تساوي جناح بعوضة، وبعدها ننسى ونعود كما كنا.. وتعود تضحك لنا الأيام ولا ندري ما الذي تخفيه لنا من وراء ضحكها.

نعود لواقعنا ونمارس دورنا في الحياة، نغضب ونثور ونحزن ونفرح ونحلم، ونترقب، نتمنى، ونعمل كخلية نحل، وننام كأكوام رمل.

إنّ ما دعاني لتذكر كل ذلك واسترجاعه، هو شعوري بالأسى، لأن ما شاهدته وسمعته كان فوق تصوري وأكبر من توقعاتي، فقد مرت أعوام كثيرة لا تحصى، أعوام بكل ما فيها من ساعات وأيام وشهور، كانت هناك صديقتان، لا..هما أكثر من ذلك، أختان، كنت أراهما وأسمع عنهما، فكل واحدة منهما متلازمة مع الثانية كظلها، تسير معها كسمائها وأرضها، كل واحدة تدور في محور الأخرى ونادرًا ما تفترقان حتى تجتمعا، كانتا نموذجًا للصداقة الراقية المبنية على الإيثار والتضحية والتفاني، هي عشرة طويلة جميلة رائعة.

فجأة سمعت أنهما تشاجرتا، وبعدها انقطعت الصلة بينهما، لا يهمني معرفة الأسباب، فمهما كانت تلك الأسباب.. ألا تشفع كل تلك الأعوام؟ ومهما كانت الأسباب، كيف نسيت كل واحدة منهما ذكرياتها ودقائق أمورها المستودعة عند الأخرى؟ كيف نسيت الصداقة والمعزّة؟ كيف تناست الإيثار والتضحية؟ هل تصدقون أيها البشر، يا ناس، يا عالم، بعد كل تلك السنوات المليئة بالود والصداقة والأخوة، تتحول إلى قطيعة أبدية، بالتأكيد إنكم مثلي لا تصدقون، وإليكم أيها الأعزاء الأمر الأدهى الذي أصابني بأزمة عنيفة، عندما مرضت إحدى الصديقتين لفترة قصيرة، وانتقلت إلى رحمة الله، وعندما ذهبت بدوري لأداء واجب العزاء، لم ألمح خلال الثلاثة أيام مَن كانت صديقتها وخليلتها وتوأم روحها، هل تصدقين يا جبال.. يا أحجار.. يا صخور.. يا بحور؟ هل يعقل أن يتولد الكُره والحقد في داخل الإنسان إلى هذا الحد؟ حتى الموت لم يكن واعظًا، لم يكن كافيًا لكي يزيل ويمحو أي خلاف، مهما كان، ففي مثل هذا الموقف ننسى كل ما يؤلمنا وما يحزننا من الآخرين، ونتذكر الأنين في النفوس.. وألم الفراق، ماذا أقول بعد ذلك.. فقلمي يذرف الدموع وقلبي ينزف دمًا ولسان حالي يدعو الله وحده، فهو بيده سبحانه أن يضمد الجرح المؤلم العميق ويمنح أجر الصبر، وأجر الشكر والاحتساب بيده، يحنن القلوب ويطهرها من القسوة والجفاء والحقد، وهو وحده القادر على إنزال السكينة والتسامح والعفو والمحبة في أعماقنا.

 

أنين الحياة

«الحياة مازالت تخدعنا كبارًا أو صغارًا.. مازال كل منّا يأمل فيها خيرًا.. نودع الموتى ثم نعود إلى أعمالنا ومشاغلنا وننغمس فيها كأننا نعيش فيها أبدًا، وننسى الذي ودّعناه.. فالليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر.. والعمر مهما طال لا بد من دخول القبر»

محمد رجب