تأنيب الضمير

 


لا تزال نصيحة أستاذتي في الجامعة ترنُّ في أذني حين قالت: إذهبي، وأغمُري طفلك بعاطفتك وحضورك، ولينتظر الإمتحان والشهادة؛ أمّا الأطفال فسرعان ما يكبرون وترفّ بهم الأجنحة فيُحلِّقون بعيداً في سماء طموحهم، وعندها «لات ساعة مَندم».

<<<

 

كان ذلك في العام 1958 من القرن الماضي. وكنت أُنهي سنتي الجامعية الأخيرة كي أحصل على درجة بكالوريوس تربية وأدب.

ولأنّي من جيلِ حاولَ أن يبرهن في كلّ خطوة، أن المرأة لا تقلُّ نشاطاً وقدرة عن الرجل،
ولا يعوقها حَمْلٌ أو رضاعة، عن تأدية واجبات علمها وعملها، فقد آليتُ على نفسي أن أتابع دراستي برغم الحَمْل. وكان طفلي الأول، مما زادني ارتباكاً، وتصميماً على القيام بواجباتي من دون أن أفرّط بلحظة من أوقات العمل أو التحصيل العلمي.

<<<

 

وضعتُ طفلي قبل بدء الإمتحان النهائي. وبعد انقضاء أسبوعين على الولادة بدَأت الإمتحانات، فهرعتُ الى الصفّ، حيث تلقّفتني أستاذتي، وهي أمّ؛ وذات تجربة ومِراس في التربية، كما كانت أستاذتي في علم النفس والتربية.

لذا، أصغيتُ الى نصحها، كما رضختُ لأوامر ضعفي الجسدي، فغادرتُ قاعةَ الإمتحان، ورجعت الى البيت لأمضي إجازةَ الأمومة، وأبدأ دراسة قواعدها من أول حرف، ولم أندم.

<<<

 

صحيح ان طموحي كان يغلبني في كثير من الأحيان، إلاّ ان الحالة الجديدة أدخلتني ملكوتها وأقفلت خلفي أبواب العالم. وعدتُ تلميذة في الصف الأوّل إبتدائي في الأمومة، والرعاية. واكتشفتُ كم أنّها مهنة متطلِّبة، وتستحوذ على الكيان، جسداً، وفكراً وروحاً. وإلاّ فكيف ينشأ الأطفال ويكبرون؟

ومن أين كان سيأتي المثل القائل: «ما بْيربى جسم حتى يفنى جسم»؟ وأفهم أن كلمة فناء في هذا السياق تعني المحبّة والعاطفة، ونسيان «الأنا» من أجل أن يكبر الصغار.

<<<

 

لم أندم أبداً على الإصغاء الى نصيحة أستاذتي. وانتظرتُ دورة الخريف لأعود وأتقدّم للامتحان المطلوب. وكان طفلي قد بلغ شهره الثالث؛ وتعوّدتُ، الى حدّ ما، كيف أتعامل مع هذا الكيان القادم من عالم يبقى مجهولاً، حتى لمن تحمله تسعةَ أشهر في جوار قلبها.

<<<

 

تذكرت تلك التجربة في حياتي عندما طالعت ما كتبتْه الصحف، ذات يوم، عن وزيرة العدل الفرنسية رشيدة داتي، وعن عودتها الى عملها في الوزارة قبل ان ينقضي أسبوع على ولادة طفلتها.

<<<

 

صحيح هناك نساء من عصرنا يحملن مسؤوليات جساما، وهي منهن. والضمير المهني يظل مثل المطرقة، ويدقّ باب الوعي والسلوك. لكن مهما ارتقت المرأة، وبلغت أسمى المراتب، تبقى للأمومة مكانة خاصّة ومميَّزة.

<<<

 

وأذكر كم ارتحتُ لدى قراءة ما سجّلته الممثّلة السويدية الشهيرة ليف أُولمان عن تأنيب الضمير الذي كان ينتابها حين تنصرف الى الكتابة بينما طفلتها في عهدة المربية، وذلك عندما كتبتْ مذكّراتها.

<<<

 

وهي حالةٌ لا مفرّ منها، وتصيب المرأة أكثر مما تطاول الرجل، إذ كانت هي، وفي كل الأزمنة، الحضنَ الذي يتعهّد الطفولة. حتى إذا دخلت زمن التحوّلات العصرية، وراحتْ تمارسُ طموحَها، وجدت نفسَها في تلك الحالة اللاواعية من وجع الضمير.

<<<

 

وليست هناك وصفة يمكن أن تُعمّم على الأمهات العاملات، من أعلى مرتبة أو مهنة، الى أدنى درجات سلّم العمالة.

فحالما يولد الطفل، يطلب له مساحةَ وجود، وتكون الأم هي الأقرب. كما تبقى الحضنَ الدافئ الذي لا غنى عنه.

<<<

 

وهي أشرفُ مهنة، الأمومة.

ومَن ذاقتْ طعمَها، وعرفتْ معناها، لا تقبل عنها بديلاً.

<<<

 

ولذلك كانت التضحية بالطموح رخيصة، لقاء التعويض المعنوي والعاطفي الذي تعرفه كلّ أمّ.