برغم نومي متأخرا، قرب الثانية عشرة، أي منتصف الليل، برغم استيقاظي مرتين، الأولى استأنفت بعدها النوم، الثانية ظللت في الفراش محملقا إلى السقف عبر العتمة بعد اكتشاف أنها الثالثة، ساعة كاملة أمضيتها مرتحلا عبر خمسة وثلاثين عاما من الرفقة، من الحياة المشتركة، في مثل هذه اللحظات المنفردة تكثر الهواجس والارتحالات والتوقعات، ما أكثر الاحتمالات عند مواجهة المجهول، لا يمكن القطع بشيء، في مثل هذه اللحظات التي يوشك الأقربون على مقاربة الخطر، يحاول الإنسان تقمص حالة رفيقه، أن يتداخل وجوده في وجوده، لكن مهما كانت قوة الخيال، أو تدافع الأفكار، فكلٌ يظل بمفرده، حقا لا يولد أحد مع أحد، ولا يموت أحد مع أحد، في السنوات الأخيرة كثيرا ما أتطلع إلى شخص بعينه يمر في محيط بصري، أقول لنفسي: لن أكون هو، ولن يكون أنا، فكلٌ له وجوده الفردي وإطاره المادي (الجسد)، هذا لن يكون ذاك، وهذا لن يحل مكان هذا، أساس الوجود فردي، ولكن المجيء إليه لا يكون إلا عبر زوجين اثنين من النوع الواحد، وخلال المسيرة من نقطة البداية إلى النهاية تتقاطع مصائر، خلال التفاهم والتقارب والمعاناة أيضا، لكن عند النقاط الحاسمة يتطلع القرين إلى قرينه عاجزا أن يحل محله، أو يتألم ألمه، أو يفتديه إن أراد.
في الرابعة فجرا كنت في كامل يقظتي، برغم الوقت القليل الذي أمضيته مستغرقا في النوم، فورة داخلية من نشاط وتوثب ربما مصدرها ذلك المتوقع، المجهول الذي نمضي إليه، عندما عبرنا مدخل العمارة رفعت يدي بالتحية لحارس العمارة الذي بادر بفتح الباب لنا، لم يكن لديه تفاصيل، غير أنني فوجئت به ينطق تلك العبارة التي سوف تتردد في سمعنا كثيرا فيما تلى ذلك، ممن نعرف وممن لا نعرف. «God bless you».. «الله يرعاك».
اجتزنا المدخل على الشارع، إلى الجادة الثانية، لا تنقطع حركة العربات طوال الليل وبالطبع النهار، بينها عربات الأجرة بلونها الأصفر الشهير وطرازها الكلاسيكي أيضا، كنا خمسة، نحتاج إلى سيارتين، ركبت في الأولى مع ماجدة وابنتنا.
«الشارع السابع والستين على الجادة الأولى».
لاحظت أن السائق يحاول تشغيل العداد، الأرقام الحمراء لم تظهر، كرر المحاولة عدة مرات، لم تظهر الأرقام، تضايقت من ذلك، ولأنني قطعت المسافة من قبل فإنني أعرف الأجر، وما يجب أن أدفع فوقه، أمام الباب الذي عرفناه أمس، توقفت العربة، مددت يدي بورقة فئة العشرين دولارا، فوجئت بالسائق يقول بالعربية:
«لن أتقاضى أجرا؛ العداد لم يعمل..».
قلت إن هذا مستحيل، أصرّ، قلت إذن خذ عشرة دولارات وتصدق بها على من تشاء، الأجرة المعتادة حوالي ستة، لم يقتنع إلا بعد إصراري، تناول النقود وهو يردد:
«ربنا معكم إن شاء الله».
الهواء البارد لفحنا وشعور الذنب داخلي؛ لأنني أسأت الظن بالرجل الذي لم أعرف البلد الذي ينتمي إليه، ولا اسمه.
الطابق الرابع
نحن الآن في استثناء الاستثناء، الطابق الذي سوف تُجرى فيه الجراحة داخل المبنى الضخم المكوّن من عشرين طابقا، متعدد المداخل، هنا المستشفى صريح، لا يخفي ملامحه مثل المبنى المخصص للعلاج الكيماوي، أو المبنى الذي يجري فيه الكشف، ولقاء الطبيب المشرف على العلاج، في مواجهة المصعد مكتب تجلس إليه شابة حسناء، تشير إلى الاستراحة التي سنمكث فيها، عندما دخلت إلى مقاعدها كان هناك رجل يرتدي حذاء رياضيا ضخما، تجلس إلى جواره سيدة، كلاهما دون الخمسين، السيدة ترتدي رداء مفتوحا من الأمام، منقوشا بالأزرق، إنه الرداء الذي يرتديه المرضى تأهبا لدخول منطقة الجراحة، ماجدة خلعت خاتم زواجنا، ارتديته في نفس الأصبع الذي يستقر فيه الخاتم الذي يحمل اسمها، انزلق بسلاسة، لعلها المرة الأولى التي يفارق إصبعها منذ خمسة وثلاثين عاما، قاعة الانتظار مستطيلة أنيقة، لفت أحمد زوج ابنتي نظري إلى لوحة صغيرة معلقة كتب عليها:
على شرف ابنتنا
ماري بوفينجتون
وفي ذكراها
جورج جون (الأب). آن بورت فيلد الأم
في المستشفيات، في الجامعات، في المتاحف سوف نرى مثل هذه اللوحات التذكارية، مبدأ التبرع أساسي، يتم في هدوء وبدون صخب إعلامي أو إعلاني، ولأن المؤسسات حقيقية والقواعد والقوانين صارمة، واضحة فكل يقوم على ما يمكنه عمله، المجتمع يتساند وفقا لقانون بعضه مكتوب، وبعضه شفهي، المهم أنه يوجد نظام، والأكثر ثراء يقدم ما يجب عليه من خلال الضرائب التي يعتبر التهرب من دفعها هنا عارا يلحق صاحبه إلى الأبد، وفي لحظة أخرى يُقدم فائق الثراء على خطوة تدهش الجميع مثل بيل جيتس الملياردير المعاصر الذي جنى ثروته من أعمال تطوير الحاسوب، وفي العام الماضي كان يلقب بأنه أغنى شخص في العالم، تنازل عن ثروته كلها من أجل أعمال الخير التي تعود على المجتمع بالنفع، واحتفظ بقدر يسير يمكن أسرته من عيش كريم فقط، بالطبع المقارنة مستحيلة بين أوضاعنا وأوضاعهم، المجتمع هنا تحكمه منظومة أخلاقية لا تزال برغم حدة التنافس، بل إن القانون يمنع الاحتكار، هل أندم أم أسخر من نفسي عندما كنا نصف الرأسمالية الأميركية بالمتوحشة، بالمتعفنة، أعترف بأنه لم يكن لدينا صورة حقيقية عن المجتمع الأميركي، الذي عرفناه من السينما أكثر مما عرفناه من الواقع، أيضا تأثير السياسة الخارجية، وبالتحديد في منطقتنا، والتي تتناقض مع الداخل، ربما أيضا لأنه يوجد نظام، المهم أي نظام، رأسمالي، اشتراكي، ليبرالي، أما ما يجري عندنا فلا أدري له اسما أو وصفا، أطيل النظر إلى مدرسة مقابلة، المباني في الأصباح الباكرة يكون لها صفة خاصة، البيوت لها سمات، الخطوط طولية أو أفقية، الفناء الخالي يثير مشاعر غامضة، أفكر في الفتاة المكتوب اسمها على اللوحة، في والديها اللذين تبرعا بهذه القاعة التي نجلس فيها، قاعة انتظار بجوار غرف الجراحة، أستحضر هذه الفتاة المجهولة بينما ضوء النهار يكتمل، حوالي السادسة والربع ظهرت ممرضة ترتدي ملابس زرقاء سماوية، لكلٍّ هنا لونه، الأطباء الكبار يرتدون الأخضر (في كليفلاند الأزرق السماوي والكبار جدا الأبيض)، تمسك الممرضة أوراقا، تنادي اسم ماجدة، ماجدة تتبعها إلى باب تعبر منه إلى أول منطقة العمليات، مسموح بعبور شخص واحد مع المريض، ابنتي ماجدة التي أصبحت أما للأم ترافقها إلى الداخل، أجلس إلى مقعد يمكنني من النظر إلى الطريق، التحديق لمسافة طويلة، لفترة طويلة بمساحة وعمق الممر الذي عشناه معا.