ذات صيف

الرسالة التي استلمتها مختصرة جدا.. أعدت قراءتها عدة مرات، ولفني الحزن.

عادت بي الذاكرة سنوات للوراء.

نهاية عامي الجامعي الثالث.. رسبت، والداي على شفا الانهيار العصبي.. أخي ماض في جحيم إدمانه، لم ينفع معه شيء، أختاي التوأم اجتازتا في الخفاء اختبارا للعمل كمضيفتي طيران، وخضعتا لجلسة تصوير خادشة، رسوبي كان النقطة التي أفاضت الكأس، صار من المستحيل علينا العيش معا تحت سقف واحد.. توزعنا بين الأقارب، ذهب أخي إلى مراكش، عند أخوالي، ودخل إلى مصحة لعلاج الإدمان، وانتقلت أختاي إلى طنجة عند جدتي، وذهبت عند عمتي التي تدير معرضا للرسم في برشيد.

والداي بقيا في الدار البيضاء.

كيف لي أن أنسى ذلك الصيف؟

استقبلتني عمتي بحفاوة.. سألتني إن كنت أريد أن أتابع مسيرتي في الطب، هززت كتفي وأخبرتها أنني أمقت ذلك المجال.. دفعت أوراقي للكلية التي اختارها والدي.. سئمت من مناقشاتي العقيمة معه، لو كنت أعلم أن النتيجة التي حصلت عليها في البكالوريا ستخلق لي كل المشاكل التي عرفتها لاحقا؛ لما بذلت أدنى جهد، سألتني عما أريد أن أفعله إذن، وهززت كتفي ثانية وقلت لها إنني لا أعرف.. وابتسمت.. وسكتت.

أخذتني إلى مرسمها.. يشغل غرفة واسعة في الطابق الأول.. فوضاه لا يمكن وصفها.. لوحات في كل مكان.. أوان ومعدات رسم وطاولات وكراس ومزهريات وتحف وعلب ورق وكتب ومجلات، أغراض مرمية، وأخرى مكدّسة في الأركان.. سحبتني إلى النوافذ الواسعة التي تشغل كل الجدران تقريبا، ودفعت زجاج إحداها، ودلفنا إلى بلكونة مغطاة بالنباتات المتسلقة وأحواض الأزهار والحشائش، جلسنا على الأريكة التي تتوسطها، وقالت عمتي إن هذا ملاذها، وإن بإمكاني أن أرتاح فيه متى شئت، نظرت للحديقة الباسقة المحيطة بالمبنى الذي نطل عليه، مصحة نفسية، أخبرتني عمتي، لديها عمل معهم. ستأخذني معها يوما ما إن رغبت، فالمبنى جميل وهادئ وتصميمه غير مألوف.

تنهدت وأنا أعبث بالرسالة.

لا.. لم أنس تلك الظهيرة.. رافقت عمتي لتسليم جزء من اللوحات التي تعاقد أصحاب المصحة معها عليها، كان الجو حارا، ولكن ظلال أشجار الحديقة الباسقة كانت تخفف وطء الحرارة، بقيت أتجول بين الممرات فيما كانت عمتي تتحدث مع المسؤولين، ورأيته.. فوجئت كثيرا.. أستاذ إحدى المواد في الجامعة.. ماذا يفعل في برشيد؟

توجهت نحوه.. وقف يحدث إحدى الممرضات، ثم كما لو شعر بأنه كان مراقبا، التفت إليَّ، وسألني من أكون وماذا أفعل.

لم أنتبه إليه يوما أكثر من المعتاد في الجامعة.. كان كغيره من الأساتذة، شخصا يمسك بزمام مستقبلنا، ولم يكن الأمر برمته يهمني، لكن في تلك الظهيرة الحارة، حين تحدثنا، وجاءت عمتي التي كانت تعرفه جيدا لتمازحه، وتدعوه لشرب الشاي عندما ينهي عمله، وجدت نفسي أمام شخص يثير اهتمامي كثيرا.

أحببت التكلم معه.. كان يقوم بعمل صيفي كل عام في المصحة، هو أصلا من تلك البلدة، كان لطيفا، رقيقا، مرحا، وذوّاقا.. تحدث وعمتي في الرسم، وشجعني برقة على أن أبدي رأيي في كل ما يقولانه، وسرّني ذلك، لأول مرة شعرت بأن ثمة من ينتبه لوجودي، ويبدي رغبة حقيقية في الاستماع إليَّ، ولا يلقي مواعظ عليَّ.

لم أرد لتلك الأيام أن تنتهي.

خرجنا كثيرا نحن الثلاثة، وضحكنا، واستمعنا للموسيقى، وتجوّلنا في الحديقة، وثرثرنا.. وكان كل ذلك ممتعًا، وكنت أحيا وأكتشف أن ثمة أشياء كثيرة فاتتني، وأندهش لذلك، وأسعد به.

واقترب الدخول المدرسي، واتصل والدي يسألني متى سأعود..

لن أعود.. قلت لعمتي.. أستاذي أخبرني بأنني لم أعد صغيرة، وبأن عليَّ أن أقرر بنفسي ما أريده، كنت أريد أن أبقى معه.. حاولت أن أقول له ذلك، ولم أعرف كيف.

ذهب قبل أن أفيق من حلمي.. ترك لي سلاما مع عمتي التي قالت إنه كان مستعجلا.. ورحل.

جاء والدي بنفسه ليعيدني إلى الدار البيضاء، ولم أمانع.. وافقت على أن أكرر العام.. فكرت بأنني سأراه في الكلية، ولكن ذلك لم يحدث.

لم أره منذ ذلك الصيف.. عمتي قالت إنه ذهب إلى فرنسا في شغل مفاجئ.

لم أتم سنتي الدراسية.. كثرت المشاكل في البيت، ووجدتني ذات يوم أهرب إلى فرنسا.

هل كنت أحلم بأن ألقاه هناك؟ لا أدري، لكن البلد لاءمني، ولم أفكر في العودة إلى المغرب حتى لحظة استلامي هذه الرسالة.

تقدّم أستاذي لطلب يد عمتي.

والداي يسألاني إن كنت سأحضر العُرس.. عباراتهما المختصرة تصفعني.. الألم الذي غمرني لا يطاق.