النوافذ المفتوحة على ذكريات طفولتي كثيرة، متعددة، وبعضها يصلح للسينما، وحدِّث ولا حرج.
الكويت القديمة، الشوارع ضيقة، والمدينة تبدأ بإعلان نفسها، المنازل صغيرة متواضعة، ومنازل ُمترفة.. (فريج سعود) هو الفريج الذي نسكن فيه، سكيكها ضيقة ومتعرجة، لا يعبر بها كمساحة إلا (الكندري) يوزع الماء على الناس، يسير بعربته التي يسوقها الحمار، يبيع الماء (درام) أو (درامين)، حسب حاجة البيوت، فالمياه العذبة وقتها شحيحة، للشرب فقط، أما باقي الاحتياجات فمن ماء (الجليب) المالح، وهو بارد منعش للاستحمام، نخرجه بواسطة (الدلو).
وكان (الكندري) (يشخط) على حائط المنزل حسابه الشهري، لم يكن يستخدم القلم بالمعنى المفهوم، كانت حياالله قطعة فحم يعلم به كمية الدروب التي أعطاها لهذا البيت أو ذاك، مثلاً (1 1 1 1).
كانت الثقة عامرة حينها بين الناس، ولم يكن (الكندري) يقلق أو يخشى أو يعاني من هاجس التلاعب في رزقه من قبل أهل البيوت في شطب بعض الدروب، أو في ممارسة (الحرمنة) لتقليل ما سيدفعونه نهاية الشهر له، عندما يقرع الباب بـ (الرمانة) ليعطوه (بيزاته)، وكانت تلك الأيام آخر أيام (الآنة والبيزة والروبية)، بداية الخمسينيات، كنت حينها في سنواتي الخمس أرفل، طفلة شقية مغامرة، محبة للمعرفة والاستكشاف، بعيدة عن الاهتمام بلعب البنات وعرائسهن، منذ ذلك الوقت تبينت ملامح شخصيتي واهتماماتي المعرفية، هكذا تقول أمي، وكانت تحمل همّ شقاوتي في حب المعرفة والاستكشاف، كنت لجوجة، ومتعبة لمن حولي، أخترق وهدة الصمت حينًا، وحينًا أسعى إلى شدق الحياة متسلحة بلذة المعرفة، وكثيرًا ما هطلت عينا أمي بالبكاء على نتائج وتداعيات شقاوتي هذه، وهي في حالة مطاردة خلفي، خاصة عند دخول الحمام، فقد كانت تخشى عليَّ من (الجليب)، وكلما دخلت خلفي تراني مستندة على حافته الدائرية أنادي بصوت عالٍ ورأسي مندلق داخل الجليب، أستمتع باسترجاع الصدى، وأتخيل عروسة البحر نائمة في قعر هذا (الجليب)، فلا أهدأ أنا، ولا تكف أمي عن مراقبتي خوفًا عليَّ.
في تلك الظهرية، وقد اطمأنت أمي، هكذا تصورت، بعد أن شغلتني بفستان العيد الأصفر، المصنوع من (البوليستر) والنايلون، فبعد أن رأتني أزهو به وأتمايل فرحًا، أستعرضه على جسدي الصغير، أجربه للعيد الذي سيأتي غدًا، وقد وعدتني أمي أن تأخذني مع صديقتي معصومة، ابنة الجيران، (لأم الحصن) لنلهوَ بالألعاب، فاستكانت البنت ونامت مع والدي نومة القيلولة.
اتجهت إلى المطبخ، شدتني علبة الكبريت على (روشنة) المطبخ، سحبت عودًا من الثقاب، أشعلته، لسعت النار أصابعي، ببراءة الطفولة وضعت العود المشتعل في جيب فستاني النايلون الأصفر، خوفًا على أصابعي، التصق الفستان بلحم بطني، ارتفع صراخي ألمًا، هرول أبي وأمي نحوي، انفطر قلب أمي هلعًا، ركض بي أبي إلى المستشفى (الأمريكاني)، أدخلوني غرفة المبات بالمستشفى، وعلى مدى أيام عشرة، كما أخبرني أبي بعدها، لم تتحّسن حالتي، ولم يلتئم جرح الحرق، وظللت أبكي ألمًا.
في اليوم العاشر، حملني أبي دون موافقة الطاقم الطبي، وعلى مسؤوليته الخاصة، اختطفني أبي بقوة الأبوّة الحانية، أخذني إلى البيت، عجن بعض الحنة الجافة من السدرة التي تحتل فناء دارنا، مسّد الحنة على منطقة الحرق على جلدة بطني، شعرت ببرودة الحنة، وبشيء من الراحة، في المساء، وبعد أن جفت الحنة على بطني، حملني أبي إلى البحر، وبريشة دجاجة اقتطعها من إحدى دجاجات أمي التي تربيها لبيضها ولحمها، جلس أبي على حافة (اليال) وفرد ساقيه حتى دخلنا ماء البحر، وأراحني بحنو كبير على حضنه داخل الماء، بلل ريشة الدجاجة، وأخذ يمسح بها منطقة الحرق ويزيل الحناء، استمر أبي لأيام قليلة يأخذني إلى البحر وعلى هذا العلاج، ويمسح بماء البحر نتائج شقاوتي، حتى التأم الجرح، وجفّ إلا من ندبة صغيرة.
كانت حادثة شقاوتي هذه مثار اهتمام الجيران، يوميًّا يطمئنون على قلق والدي والنتائج المذهلة بعلاج ماء البحر وريشة الدجاج، ومنهم قلق الطبيب الإنجليزي، الذي ذهل واستغرب كيف أن أدوية المستشفى ما نفعت إزاء خلطة الحنة وريشة الدجاجة!
شرح المفردات
فريج: حي
درام: وعاء نضع فيه الماء أو أي سائل
(أم الحصن): الملاهي
اليال: بداية البحر/ الشط
البيزة: عملة معدنية قديمة
سكة: مفرد سكيك، زقاق
الكندري: بياع الماء في الكويت القديمة
يشخط: يعلم بعلامة
دروب الماء: عددها
الجليب: حفرة عميقة لاستخراج الماء المالح
الرمانة: مقبض الباب وكان من المعدن
روشنة: الشباك
المستشفى الأمريكاني: أول مستشفى في الكويت