المدرسة القبلية، من أوائل المدارس النظامية بالكويت للفتيات، وتبعد بضع دقائق عن حيّنا «فريج سعود»، وحظِّي فيها كان للسنة الأولى الابتدائي مع أختي الكبيرة، بعدها انتقلنا من «حي سعود» لدخول نظام التثمين، وتحويل الكويت إلى مدينة حديثة، حيثُ دخلت الطفرة المالية ليتنعم المواطن، فكانت النقلة الحضارية لوطني الكويت، والانتقال لأسرتي إلى سكن آخر أكثر حداثة ومدنية واتساعًا.
ذلك الصباح، وكانت أمي تعدنا للذهاب للمدرسة، واسمها القبلية، وتضع في أيدينا بضع «بيزات» تساوي اليوم خمسين فلسًا بعملتنا، طلبت مني أمي ربط خيط حذائي الرياضي، والعملة مازالت في يدي، وجرس المدرسة على وشك أن يقرع، والتأخير ممنوع، والعقاب لمنْ يتأخر، وأنا على عجالة، وضعت قطعة النقود بين شفتيّ لأربط خيط الحذاء، فجأة، وعلى حين غرّة، بلعت، أو انزلقت، العملة، ووقفت في «زوري»، بلعومي، لحظات بحجم العمر توقف النفس، وازرقَّ الوجه، ودارت الدنيا بأمي، وأبي حينها كان يرتدي ملابس الخروج، هرول نحوي يساعد أمي في ضرباتها على ظهري كي تخرج العملة، دون فائدة أو نتيجة، الازرقاق يزيد، والنفس يختفي، والروح تستنجد، ولا حياة لمنْ تتوجع، وقفت العملة على أطرافها سادّة أي لفحة هواء للدخول للبلعوم المحتقن.
فجأة خطر على بال أمي خاطر جهنمي، أسرعت لسلة الخبز، اقتطعت قطعة ودستها في فمي، طالبة مني مضغها بسرعة وابتلاعها، وكانت عملية صعبة، وهمًّا على همٍّ، ولكن «حلاوة الروح» استجابت، ففي ثانية، بل أقلها، مضغت قطعة الخبز وبلعتها بألم يقطع «الزور» تقطيعًا، ونزلت ضاغطة على العملة لتنزل إلى معدتي، وتلحقها مباشرة قطعة الخبز، لأتنفس الصعداء وترد الروح لي ولأمي ولأبي، ويا روح ما بعدك روح، وكان يومًا لا مثيل له، تأخرنا يومها عن المدرسة، ورافقتنا أمي كيلا ننال العقاب، حرّمت بعدها وضع أي شيء في فمي ليس للأكل، وتخوفت من مصروف المدرسة، انتهى اليوم المدرسي وقطعة العملة «إياها» تتجول بحرية في أمعائي، حتى انتهى اليوم الدراسي. عدت للبيت باكية؛ لأن هناك شيئًا غريبًا في معدتي لم يخرج بعد، طمأنتني أمي بأنه وبعد وجبة الغداء، وحين تمتلئ المعدة، سوف تطرد هذا الدخيل، وكان تعدية اليومين خارج المألوف، واتجهت «أكرمكم الله» إلى بيت الراحة، لترن العملة في أرضيته «المخطلة» معلنة خروجها، وارتحت وتنفست الصعداء، وبشَّرت أمي، وانتهى الكابوس، لا أراكم مثله، وحمدت ربي كثيرًا.