عثرت في أوراقي، وأنا أفرز أشياء حجرة مكتبي القديمة، التي عشت فيها مراهقًا ثم شابًّا (لم يشف بعد من المراهقة) حتى انتقلت إلى بيت زوجتي الحبيبة، عثرت وأنا أقلب قصاصات الورق المصفر، والقصائد الطفولية المكتوبة بالحبر الجاف، على ورقتين أو ثلاث ليست بخطي، خطها مرتعش، لكنه لا يخلو من وسامة.
وكانت تلك الورقات القليلة عبارة عن خطاب، غفل من الإمضاء، وموجه لكائن مجهول سماه الفتى: حبيبتي، وأكده الفتى لسببين: أولهما واضح من الخطاب -وهو كما سترين بنفسك يا عزيزتي- أن أسلوب الكاتب ساذج بريء، ولا يمكن أن يخرج إلا من طفل نما فجأة، طال جسده واخشوشن صوته وزاد ذكاؤه، دون أن يتخلص بعد من طفولة الروح، وهو يتمرد عليها؛ ليؤكد رجولته فيقع في الحماقة، وحتى إن كان نبيل النفس زكي الفؤاد.. وسترين
يا صديقتي من كلامه مدى اندفاعه في الحب ونظرته للمحبوب، مما لا يصدر إلا عن شاب بلا تجربة ولا معرفة بالحياة ولا بالمرأة.
السبب الثاني الذي يجعلني أوقن بأن كاتب الخطاب كان ما زال صبيًّا غريرًا حين كتبه، أني وجدته في حجرتي.. وهذا معناه أن كاتبه كان صديقي، أو أحد أصحابي، أو زميلي، أو على الأقل شخصًا يماثلني في السن زارني أكثر من مرة.. ولولا آفة النسيان عندي لتذكرته.
خلاصة الأمر أن من بين الأوراق القليلة التي أبقيت عليها فلم أمزقها أو أحرقها، وأنا أفرز أوراق مكتبي الحبيب الذي نما معي منذ بداية المراهقة حتى بداية النضج، هذا الخطاب، لم يكن هذا لقيمته، بل لأن شيئًا أثار حناني، تمامًا كما لو كنت حيال قطة مبتلة بالمطر.
(وسوف أورد الأخطاء النحوية والإملائية كما هي)
وكان يقول:
«حبيبتي
لماذا فعلتي بي ما فعلتي.. هل لأنك أنت الشمس وأنا كوكب صغير عابر سبيل، لا يراني في الليل حتى أكبر تليسكوب في العالم؟ لماذا فضلتيه عليّ؟ هو لا يحبك كما أحبك.. هو لا يحب إلا نفسه.. طوال عمره كان يسرق مني لعبي، وينتزع مني كرتي، ويخطف من يدي عنقود العنب الذي يعجبه.. أنا لا ألومه لأني أعرفه، طول عمره أناني، ويطمع فيما في يد الغير، حتى إن كان أخيه شقيقه.. أنا لم أكلمه لأني أعرف رده.. سيقول هي اختارتني أنا.. وهي على حق.. فأنا أذكى منك وأطول وأوسم.. أعرف ما سيقوله أخي.. لأني أعرفه وأتوقع منه أي شيء ولا أندهش منه أبدًا.
لكنك يا حبيبتي شيء آخر.. إنك ملاك، فكيف يخطئ الملاك؟ بل كيف يرتكب الملاك الخطيئة؟
لقد قلت إنك تحبينني.. فما الذي غيرك؟ كيف تطعنيني فجأة من غير ذنب؟ هل كان حبك لي مجرد كلام.. إن هذا الولد لا يستحقك، وهو يطعنني طول عمره، لكن ملاكا طاهرا مثلك – لا، لا أستطيع أن أتصور كيف فعلتي ذلك.
تستسلمين لمغازلته هكذا من أول مرة.. إنه خبيث وأنا أخشى عليك منه، أخشى أن يلوث طهارتك- أخشى عليك رغم أنك طعنتيني طعنة لا شفاء منها.
غفر الله لك – لا، فليحرقك الجحيم ولتتقلبي في نار جهنم- كلاكما خائنان فاحترقا معًا.. ولسوف أخرج من هذه التجربة قويًّا مرفوع الرأس».
ربما خرج حقًّا من تلك التجربة قويًّا مرفوع الرأس؛ لأن المراهقة هي سلسلة من التجارب القاسية التي «نتخرج» منها بشرًا ناضجين.. وكانت تجربة هذا الشاب قاسية حقًّا.. أنْ يخونك شقيقك وحبيبتك معًا في طعنة واحدة شيء رهيب، حتى بالنسبة لإنسان ناضج.
لست أدري لماذا أردت لكِ أن تقرئي هذا الخطاب يا عزيزتي، ربما لنحاول معًا أن نتخيل شخصية هذي «المحبوبة» – هل كانت حقًّا هذا الملاك؟ بالطبع لا.. لكنها لم تكن بالضرورة شيطانة، ربما كانت قاسية القلب، هذا وارد، ولكن أيضًا قد تكون ضعيفة أمام رغباتها، أو أمام ذلك الأخ المتخصص في الخطف.. وبعض الفتيات يحببن الرجل العدواني الذي ينتزعهن من أنفسهن، ويفضلنه على العاشق الخاشع أمام أنوثتهن، ليكن الأمر ما يكون، فإن هذا الولد -الذي قد صار شيخًا فانيًا الآن- أثار حناني، فأردت أن تشاركيني في الأسى المتبسم إزاء حب بريء.