تحتفظ ذاكرتي بأرقام محددة للهواتف، معظمها للأصدقاء الذين بلغت علاقتي بهم درجة من الحميمية، عميقة، ومتصلة، الأرقام تنتمي كلها إلى مصر، أما الرقم الوحيد الذي أحفظه من أرقام الخارج فخاص بمنزل آل الشوباشي في باريس، أينما كنت في العالم أديره لأتصل بهم، وفي أية دولة أوروبية أبادر بالاتصال، ودائما عندي الإحساس بالأمان، طالما الرقم في ذاكرتي، لو تعرضت لأية مشكلة، أي طارئ، فيكفي اتصالي بآل الشوباشي، أما إذا كنت قاصدًا باريس فيصبح الهاتف عندئذ هاتفي، وبيتهم بيتي، تمامًا كما كان لمصريين وعرب لو كتبت أسماءهم لما اتسع المجال، خلال زيارتي إلى باريس أقصده، مفتاح الشقة في جيبي، معي نسخة منه، كثيرًا ما كنت أتلقى دعوات رسمية من معهد العالم العربي، من دار النشر «لوسوي» من وزارة الثقافة الفرنسية، من بيت الكتاب، وعندما يتهيأون لإخباري باسم الفندق الذي تم الحجز فيه أقول بثقة:
«شكرًا فعندي بيت في باريس».
بعض من يجهل يظن أنني أمتلك شقة، أما الأصدقاء فيدركون على الفور أنني سأكون مقيمًا في بيت آل الشوباشي، أقيم ولست ضيفًا، ذلك أنني لم أشعر قط خلال حوالي ربع قرن من التردد على باريس أنني أقصد البيت لأنزل ضيفًا على أصدقاء أعزاء، كنت جزءًا منه وما أزال، وبالنسبة لي ليس من السهل التكيف مع مكان إقامة، خاصة في الغربة، بل إنني أحل ساعات قليلة ضيفًا على بعض الأصدقاء زائرًا، فأخجل من طلب دخول دورة المياه لقضاء حاجة.
ولكنني لا أعرف ألفة مع المكان كما عرفت في بيت آل الشوباشي، وبيت آل الشوباشي معنى إلى جانب أنه مكان، سواء بيتهم في شارع الساحة بعابدين، وسط المدينة قبل هجرتهم إلى فرنسا عام ثلاثة وسبعين، أو في شارع شيفاليريه بالحي الثالث عشر، أو في الهرم بعد عودتهم منذ سنوات قليلة، دائمًا البيت مفتوح للأصدقاء من الأدباء والفنانين، ودائمًا تدور فيه المناقشات، ثقافية وسياسية، صالون دائم بدون صالون، كان البيت القاهري أو الباريسي تجسيدًا لمواقف علي الشوباشي ورفيقة عمره التي حملت اسمه منذ أن تزوجا في عام ثمانية وخمسين وتسعمائة وألف، بعد زواجهما بسنة واحدة اعتقل علي، وحوكم في قضية سياسية باعتباره يساريًّا، وصدر ضده الحكم بثماني سنوات، أمضى منها خمسًا بين معتقلات أبو زعبل والواحات مع صفوة من المثقفين والمناضلين المصريين، تعرضوا خلالها لأبشع عمليات التعذيب البدني والنفسي، كان المطلوب من كل إنسان أن يصل إلى لحظة يتحطم فيها تمامًا، وأن يقوم بالخطوة التي يعقبها الخروج من المعتقل إلى الحرية، ما ثمن ذلك؟، كان مجرد توقيع، أن يوقع باسمه على عدة سطور يستنكر فيها الأفكار التي يعتنقها، أن يعلن انسلاخه من عضوية أي تنظيم ينتمي إليه، صمد علي الشوباشي في السجن، ورغم أنه لم يتحدث كثيرًا عن هذه الفترة، إلا أنني أتيح لي أن أعايش صلابته المبدئية وإخلاصه العميق لما يؤمن به عن قرب، إذ ضمنا المعتقل معًا في ظروف مختلفة، وكان ذلك عام ستة وستين، أي بعد خروجه من المعتقل ضمن الإفراج العام، الذي حدث عام أربعة وستين عن المعارضين السياسيين، من شيوعيين وإخوان وفئات أخرى.
تعرفت إلى فريدة في ندوة نجيب محفوظ، التي كانت تعقد في مقهى الأوبرا، كان ذلك عام ستين، ومن يعرف فريدة الآن، بحماسها وإخلاصها للعروبة، وقضية العدالة الاجتماعية فسيجدها كما كانت تمامًا في تلك الأيام البعيدة، لم تهن مع الزمن ولم تفتر، عرفتها قبل أن ألتقي علي، الذي بدأت علاقتي به عام أربعة وستين بعد خروجه من المعتقل؛ لذلك يرتبطان عندي، وعندما أقول آل الشوباشي إنما أعني كليهما، فريدة وعلي ثم نبيل الابن الذي جاء إلى الدنيا قبل اعتقال علي لثالث مرة عام ستة وستين، (كانت المرة الأولى عام ثمانية وأربعين).
أستعيده كما رأيته أول مرة، وأيضًا آخر مرة، إطراقته المتأملة، هدوءه العميق الذي يمكن أن يتبدد فجأة ويتحول إلى عاصفة إذا ما استفزه البعض في شأن يتعلق بما يؤمن به، إخلاصه الشديد لقناعاته، اعتباره الشأن العام من أدق خصوصياته، إخلاصه الشديد لقضايا الحرية والعدالة طوال عمره بغير جمود، لم يتغير ولم تتبدل قناعاته الأساسية، ولكن رأينا من تحولات البعض، من النقيض إلى النقيض، بدوافع شتى، حتى صرنا نعيش أحداثًا تشبه الروايات بعد أن كنا نكتبها فقط، ظل علي الشوباشي متسقًا مع نفسه ومع ما يؤمن به منذ البداية وحتى النهاية.