كانت تكنس عتبة بيتها عندما سمعت حركة خفيفة خلفها، التفتت دون أن تقوم.. امرأة في طولها، وربما أكبر.. أمعنت النظر.. غريبة بشعر شاحب، وبعينين زرقاوين، تحدق بهما، وتبتسم.. ظهرها محني، وعنقها مثقل بآلة تصوير تتأرجح أمامها.
« -بونجور...».
الكلمة الوحيدة التي فهمتها من سيل العبارات المتداخلة التي قذفتها شفتاها المنفرجتان..
أشارت المرأة للممر، والسقف الواطئ، وباب الدار، ولم تكف عن الابتسام.
وضعت مكنستها، وقامت بحذر.. »نعم، هذه داري.. هل تريدين الدخول؟ هل تشربين بعض الشاي؟»، دعمت دعوتها بإشارات واضحة، وهزت الأجنبية رأسها، ونظرت خلفها، وقالت كلامًا غير مفهوم.
»مرحبًا بك، تفضلي، لا تخجلي...»، حاولت يامنة أن تمد يدها إلى المرأة التي التفتت من جديد، وصاحت تقول شيئًا.
رد عليها صوت رجولي، وبدا عند مدخل الممر المغطى أجنبي طويل القامة مثلها، يرتدي سروالاً قصيرًا، ويحمل هو الآخر آلة تصوير.
خلع قبعته الشمسية، وأحنى ظهره، ودخل الممر، وفي إثره شيبوب، صبي إسكافي الحارة.
»خالة يامنة، جاءك ضيوف»، هتف ضاحكًا خلف الرجل، وتنفست الخالة الصعداء وهي ترى شخصًا يتكلم لغتها: »تعال يا ابني، قل للمرأة إنني أدعوها لشرب الشاي، جف حلقي ونحن نتحاور كالطرشان!».
انسل شيبوب بخفة بين الأجنبيين، وبرطم بلغتهما، وحملق في الجمع الصغير ووجهه الضاحك يزداد انشراحًا: »وأخيرًا جاء من ينافس الخالة! المخلوقان، ما شاء الله عليهما، يبدوان أطول منك! أشعر بأنني قزم بجانبكم»!
نهرته يامنة، وانحنت أرضًا تبعد تلة الغبار التي كنستها إلى الركن، وتسند فوقها المكنسة، وتقوم بعجلة لتشرع باب الدار أمام الأجنبيين، وتسبقهما إلى الفناء.
دخل الجميع، ومدت المرأة جذعها نحو السماء، وأسند رفيقها ظهره بيديه، ولويا لسانيهما بكلام غير مفهوم.. كانا طويلي القامة فعلاً.. أطول منها بأكثر من شبر، حملقا حولهما بفضول، وقال الرجل شيئًا لشيبوب الذي مدّ يده إلى صحن الخضار المقشرة على المائدة.
دمدم الفتى وهو يقضم طرف جزرة: «يستأذنانك لأخذ صور...».
هزت الخالة حاجبيها بدهشة.. صور؟! لفنائها الصغير؟ ما فيه ما يستحق التصوير.. هزت رأسها وتركتهما رفقة شيبوب، جرت إلى المطبخ تضع الماء على الموقد وتحضر صحن كعك وتمر ولوز، عسى أن يكون ولدها قد وجد بين ظهراني هؤلاء الناس من يحن عليه ويشفق على شبابه.. الله لك يا إدريس! مضى العام الثالث ولا خبر عنك!
قلبها يتمزق كلما فكرت فيه.
جهزت الصينية، وخرجت لتفاجأ بالأجنبيين يصوران المائدة التي كانت تقشر الخضار فوقها.
«تعجبهما الألوان المتداخلة»، شرح شيبوب وهو يأخذ الصينية منها، ويزيح طبق الخضار ليضعها مكانها.. تراجع وترك الأجنبيين يتكتكان بآلتي التصوير.
- «اسألهما بالله عليك يا ولدي، هل قَدما من نفس البلاد التي ذهب إليها إدريس؟»..
انمحت كل آثار المرح من على سحنة شيبوب.. مد يده إلى الخالة: »لا يا خالة.. هذان أميركيان.. إدريس هاجر إلى أوروبا...».
لم تفهم.. لكنها انحنت بكمد لتصب الشاي.
كانا جائعين.. التهما كل ما في الصحن، وقامت لتحضر المزيد من الحلوى، واستوقفها شيبوب: «يا خالة، هما يشكرانك ويطلبان منك أمرًا».
التفتت إليهما.. رفعت المرأة يديها أمام وجهها في حركة توسل، وخفض الرجل رأسه..
«يريدان أن يأخذا لك صورة في الممر، وأنت تنحنين، أمام باب الدار...».
حملقت فيهما بذهول.. الممر؟ سقفه واطئ جدًّا، وهو ضيق، وباب الدار صغير.. ما الجميل في هذا المنظر؟!
سألت شيبوب، وبدا لها الفتى غير مرتاح وهو يشرح ما قالاه: »يريدان المشاركة بالصورة في مسابقة....»
لم تفهم شيئًا.. خيّم على الجمع صمت قصير قطعه شيبوب بغتة: »اسمعي يا خالة.. لا أحد يجبرك على شيء.. الأجنبيان يريدان أن ينشرا صورتك في جورنال ليضحك الناس عليكِ.. أنت بقامتك الفارعة، في الممر الضيق، تحت السقف الخفيض، أمام باب الدار الذي يشبه الجحر.. ارفضي.. لا حق لهما في طلب مثل هذا منك... خصوصًا بعد استقبالك الكريم لهما!.»
جورنال؟! قد يرى إدريس الصورة، ويتذكر أمه.
قامت منشرحة تشير للأجنبيين ليتبعاها لأخذ الصورة، لم تنفع اعتراضات شيبوب، تركتهما يمطرانها بالفلاشات من كل الجوانب، وابتسمت لابنها، ولمعت عيناها بدموع شوق وعتاب ولوعة.