عندما دخل عليها بعد وصولها بيوم واحد كانت قاعدة، كأنها واقفة، مسومقة، غصنية، لها توثب ومنها نبع، كانت ترتدي خمار البدويات الأسمر، محبوكًا، مزمومًا حول فمها وأنفها، نغم يسري من الفراغ الأشم، الذي يوجده تقدم أنفها المنمق، عصابتها لا تتجاوز العينين الشاهدتين على روعة الكون ومعجزة امتداده ليطل عليها بصرها الحاوي.
عينان لم يعرف مثلهما، سيظل تطلعهما إليه علامة فارقة في مسيرته الدنيوية، ومنهما سيتلقى إشارتها الداخلية، فيسعد أو يشقى أو يتوهم أو يتأكد.
ظهورهما أوجز ما لا يبدو منها، بروزهما لا يمكن اعتباره جحوظًا، إنما تجسدٌ وتعيين فكأنهما النموذج الأول الذي انحدرت منه سائر العيون والرؤى، ما بينهما تلميح إلى بشرتها، درجة من البياض الشاهق، الضرعي، بياضها مجمع، فإذا شاء رأى فيها سمرة، أو شقرة، أو صهبة، أو حمرة، أو صفرة وترددات علوية فيها أصداء فيروزية، وضعية طلتها تشي بموسيقية عنقها السارحة، الغصنية، السيسبانية.
لم يدم مكثه بحضرتها إلا وقتًا معلومًا، رسائلها غزيرة، حاوية، ارتد إلى موضعه المطل على أفق العباد ومحل سعيهم يستعيد على مهل ما رأى وما أصغى إليه رغم أن ما تبادلاه مجرد إيماءات، كانت ماثلة أمامه، مصغية، متأهبة للتلبية، فلو شاء لقطف، ولو تقدم لجنى، لكن ثمة ما لا يمكن تعيينه أو تحديده منعه من ذلك، أحيانًا يكون تمام تأجيل المتعة أجمل من النيل، من تحققها، حكى له أمير من بلاد الغرب عن سجنه مدة في زنزانة لا يمكنه التحرك فيها إلا نصف خطوة إلى الأمام ومثلها إلى الخلف، تداخل عليه الليل والنهار حتى ضاعت الفروق بين الضدين، وحرموه أنواع الطعام التي اعتادها، فلم يملأ معدته إلا بما جهله، حتى أتاه الحارس يومئ بتفاحة، مستديرة، صفرتها مغيبية، صلابتها في ليونتها، تناولها، شمها، تنسمها، لجلج فيها ينبعث منها، لكنه لم يقضمها، أبقاها، لو أكلها فسيفقدها، لن ينسى الأمير ذلك أبدًا، إيقاع صوت الأمير وهو يقول بامتناعه ولم يسأله ليتم معرفته، هل التهمها فيما بعد أم احتفظ بها؟ الأمر مغاير للبدوية التي حلت به، في اللحيظات الأولى التي تلت قطفة المشاهدة الأولى سعى إلى الانفراد ليمكنه الاستيعاب، رغم تعدد ما رأى، وما عاين، فكأنه يطالع اللبنة الأولى، النطفة الأولى التي انحدر منها سائر الخلق.
عينان غازيتان، نغميتان، شروقيتان وغروبيتان معًا، فيهما الامتنان والعتاب، متجاوران، بقدر ما تضجان بالفرح المكنون تومئان في الوقت عينه بأسى شفيف باعث للحيوية، مستنفر للقدرة، غير محبط، تتخلله أحزان شهبية، لم يغضب ولم يتعجل، إنها الأويقات المطالعة، صعوبة البداية، صحيح أنها المعززة، المدللة، المرغوبة في قصر الخليفة الآن، لها التسيد والمكانة، غير أن تبديل الأحوال وعر، فما البال إذا اتصل الأمر بمفارقة الأهل، والانتقال من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان آخر، غير أن حدسه حاد وتقديره اختل.
ما بدر منها عند لقائهما التالي شحذه وأجج اهتمامه، عندما اكتمل انفرادهما وقعد في مواجهتها وسبح باسم الله، خالق هذا الجمال، ومبدع تكوينها الفرد، استسلم للحظات الكشف تلك، أروع ما تحويه الصلة، عندما يسعى كل طرف باتجاه الآخر، يتبينه، يحاول إدراك خصائصه، يستوعب أبجديته.