وعدنا الأستاذ بأن يدعنا نستمتع بالوجبة الفاخرة التي دعانا إليها، ولكنه لم يلتزم بوعده، دردشته الخفيفة لم تلبث أن تحولت إلى تتمة للمحاضرة التي بدأها منذ ساعات «جماليات أدب ما بعد الحداثة». السخرية السوداء مثالاً، دأب روائيو ما بعد الحداثة على تناول مواضيع جادة ومأساوية، كأحداث الحرب العالمية الثانية، بنفس كوميدي ساخر يضخ دمًا جديدًا في شريان الأدب العالمي، رواية دونالد بارتيم «المدرسة» تمثل عينة جيدة للدراسة، حكاية الموت الجماعي الغامض لنباتات وحيوانات وأشخاص قريبين من تلاميذ فصل دراسي في مدرسة ما، تصور كيف تحول الموت في ظروف تاريخية صعبة، إلى شيء شبيه بمزحة ثقيلة...
يتحدث الأستاذ، أصابع البعض منا تعبث بعصبية بالخبز والشوكة والسكين، تتحرق لكي تسحب المفكرة من الحقيبة وتبدأ في تدوين الملاحظات، من يدري؟ قد يختبرنا في ما يقوله، أشيح بوجهي جهة النافذة، ولا أشعر بالقلق.
أحد عمال المطعم يكلم متسولة تحاول التقدم بين طاولات التراس، المرأة مقعدة، تدفع بنفسها كرسيها المتحرك، والعامل لا يريد أن يدعها تزعج الزبائن.
تنهدتُ.
لا يهمني الليسانس،اتخذت قراري، سأهاجر.
والبحث؟ وامتحانات آخر العام؟ سأكون غبية إن تركت كل شيء الآن، صبرت أكثر من ثلاث سنين، شهران زيادة لن يقتلاني، سأحضر الدروس واللقاءات، لن أطير من الفرحة إن نجحت، ولن ينهار العالم من حولي إن رسبت، ولن أرسب، علمتني التجربة أن أتوقع الخير في الأمور التي لا أحملها أكثر مما تطيقه.
دونالد بارتيم يستحق منا وقفة، رواياته؛ كقصصه القصيرة المكثفة تركز على التفاصيل الصغيرة التي تبدو بدون رابط يربط بينها، سخريته الممزوجة بحس فكاهي طفولي، تمنح كتاباته طابعًا خاصًا يميزه عن غيره من كتاب ما بعد الحداثة...
فقدت خيط الكلام وأنا أتطلع لمجموعتنا، أربعة شبان وثلاث شابات، سبعة بحوث تدور في فلك أدب ما بعد الحداثة، أستاذنا اقترح المواضيع، ونحن قدمنا ترشيحنا ضمن عشرات الطلاب، الذين تدافعوا للفوز بشرف العمل تحت إشراف الأستاذ المعروف، الذي يكتب في الجرائد والدوريات، ويحل ضيفًا على البرامج الثقافية داخل وخارج البلد، كيف اختارنا؟ لا أحد يدري، علقت لائحة أسمائنا على السبورة المجاورة لمكتبه، وبدأنا العمل معه.
أحضر الجرسون أطباقًا جديدة، ولم يتوقف الأستاذ عن الكلام، أدرت وجهي من جديد، ولمحت المتسولة عند مدخل التراس، جلبابها الرمادي باهت، ومتسخ، وغطاء رجليها مغبر وممزق من الجوانب، وجهها تعب، وأسنانها الأمامية مفقودة.
أي رسالة ينبغي للأدب أن يوصلها لبشر يقتلون بعضهم بوحشية «ويدمرون العالم من حولهم ببرود؟». سؤال الأستاذ لا يهمني، تتطلع المتسولة إلى الجالسين حول الطاولات الأنيقة، أهرب من عينيها، وأتأمل جمعًا من السياح يتوقفون أمام لائحة الأطعمة المستعرضة على لوحة دعائية على الرصيف قرب التراس، رجلان وامرأتان وثلاثة أطفال أكبرهم في عمر المراهقة كلهم شقر، بشرتهم بيضاء شاحبة، وعيونهم ملونة، أميركيون ربما، قاماتهم طويلة، وبنياتهم قوية.
أتى الجرسون بالفاكهة والحلوى، تساءلت كيف يستطيع الأستاذ التحدث والأكل في نفس الوقت، طبقه فارغ، نظر لساعته وطلب فنجان قهوة مُرة، موعد طائرته يقترب، ابتسم بفخر، وقطع درسه الممل ليحكي لنا مرة ثانية أو ثالثة -لم أعد أتذكر كم بالضبط- كيف اتصل به مقدم برنامج ثقافي مهم ليدعوه للمشاركة في حلقة خصصها لأدب ما بعد الحداثة، دعوته الكريمة للغداء كانت من مخلفات فرحته للمجد الذي ينتظره في الخليج، إن نجحت الحلقة ستتهافت كل الفضائيات عليه.
جلس الأجانب قريبًا منا، ودق قلبي بشدة عندما فتحوا أفواههم، كانوا ألمانًا، يا للصدفة! هذا أفضل ما يمكن أن يحدث لي هذه الظهيرة، فرصة حقيقية لاختبار قدراتي في الألمانية.
تأففوا من الحر والزحام وقاذورات الطرق، ولم يسروا من مذاق الأكل الذي أحضره الجرسون، ولم يعد تنصتي عليهم يمتعني، بدأ انفعالي يزداد وأنا أسمعهم ينتقدون كل ما رأوه في البلد، من يظنون أنفسهم؟ وأنا التي أهلك نفسي منذ عامين لأتعلم لغتهم، وأحصل على فيزا للهجرة إلى بلدهم!
انتبهوا -صرخ أحد الألمان وهو ينظر بعدوانية للمتسولة المقعدة التي اقتربت منهم- مدت كفها دون أن تفهم ما يحصل، وسحبت المرأتان الأطفال نحوهما ونادى الرجلان الجرسون: «أبعدها عنا فورًا!» قالا بالإنجليزية.
شتم الجرسون المرأة ودفع كرسيها بعنف حتى كاد أن يوقعها، جلس الألمان وهم يتأففون، واصل الأستاذ حديثه عن جماليات أدب ما بعد الحداثة، وانقبض قلبي وأنا أتخيل ما ينتظرني في الغربة.