من خيبات زمننا هذا أنَّنا انشغلنا بعيوبه وحاجاته عن الالتفات إلى ما ورائنا القريب المُشرق، الذي يمدّد انشراح النّفس، ويُعطي الحياة شكلاً برتقاليًّا براقًا، من منّا منحه زمانه فرصة الاطّلاع على محراب الشّاعر والكاتب إبراهيم المازني، هذا المصري العملاق الذي عاش في الفترة ما بين 1890م إلى 1949م، وكان آية من آيات الفن السّاخر، لقد عشت معه في طفولتي وبداية دراستي الجامعيّة لياليَ وشهورا، أُردّد جُمله وتشبيهاته ومفرداته، متعجّبًا من روحه «السّاخرة»، وبلاغته اللاذعة.
وممّا يجعل المازني يستحوذ على ذهن القارئ، هو هذا التّفاؤل حين يصف نفسه في «ذاتيّة خضراء مُستحسنة» قائلاً: «إنّني سمح، مُتواضع، سلِس، عطوف، مغتبط بالحياة، راضٍ عنها، قانع بها، أتلقّى الحياة بغير احتفال، وأفترّ للدّنيا عن أعذب ابتساماتي، وأحسّ السّرور يقطر من أطراف أصابعي كالعرق»!!
يا إلهي على هذا التّفاؤل الذي يسير مع الحياة دون أن يُخالطها، إنّه إبراهيم المازني، الذي كتب عن «إبراهيم الشّاعر»، و«إبراهيم الكاتب»، و«قبض الرّيح»، و«حصاد الهشيم».
وممّا يجذبك في إبراهيم المازني أيضًا خروجه على تقاليد الكتابة، لأنّه كان يرى بعينيه، وليس بذاكرته، فقد كان يستخدم جُملاً مثل: «أقدم من هرم خوفو»، ويقول «معدتي طاعنة في السنّ كمخلاة قديمة».
ويصف الزّواج بقوله: «الزّواج يشبه لبس الحذاء، والأعزب الذي اعتاد المشي حافيًا»!
المازني هذا الكاتب السّاخر النّادر، كان مُتأثّرًا بالكاتب الأميركي السّاخر مارك توين، وبالكاتب أوسكار وايلد، واستطاع أن يتجاوزهما من خلال تبنّيه مجالاً يعتمد فيه على بيئته المصريّة، ليخرج لنا عشرات الكتب في الفنّ السّاخر، فقد كان كثير السُّخريّة حتّى من نفسه، فهو قد أطلق على نفسه وعلى أقرب النّاس إليه الأستاذ العقّاد رقم (10)، ذلك لأنّ العقّاد كان طويلاً، بائن الطّول، والمازني قصيرا مفرط القصر، فكأنّهما بجوار بعضهما يشكِّلان الرّقم (10)!!
وكتب مرّة في مقدمة كتاب له يحوي عدّة قصص قصيرة يقول: «يحوي هذا الكتاب عشر قصص قصيرة، سهرت في كتابتها الليالي الطّويلة، ولقيت في طبعها عنتًا وإرهاقًا، وقدّمتها لك –أيّها القارئ– بعشرة قروش، أي أن القصة الواحدة لا تساوي إلا قرشًا واحدًا»!
يا الله، اعلموا أن الأدب «رخيص» من زمان، وإنّما الغالي فهو من نصيب «قلّة الأدب»!!
ويروي عن نفسه بأنّه ذهب إلى طبيب أُذن يشكو إليه من صمم جزئي أَلَمَّ به، ودلّل للطّبيب على صحّة شكواه بأنّه لا يسمع جيدًا الطّرق على الباب، فوصف له الطّبيب دواءً مقوِّيًا للسّمع، وبعد فترة طويلة سأله الطّبيب عن حالهما فأجابه على الفور بقوله: «أبدًا، أذناي مثلما هما، ولكنّي بتُّ أسمع «الخبط على الباب» جيِّدًا، ويظهر أن الدواء يقوِّي الخبط وليس السّمع»!!
ولكن هذا إبراهيم الشاعر الساخر، والكاتب المحب للحياة، والمُغتبط بها، حلّت به مسحة ألم، وإطلالة حزن، إنّه مثل مواطنه الممثل النّادر إسماعيل ياسين، الذي أضحك الملايين عبر سنين طويلة، ثمّ يموت حزينًا تعيسًا مغمومًا!!
لقد كتب إبراهيم المازني في مقدمة كتابه «حصاد الهشيم» كلامًا كأنه الحزن، بل هو الحزن بحرفه وزحفه ورجفه، كتب يقول: ما مصير كل هذا الذي سوّدت به الورق، وشغلت به المطابع، وصدّعت به القُرّاء؟!. إنّه كلّه سيفنى ويطوى بلا مراء، فقد قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد، وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسدّ الطريق وتسوية الأرض لمن يأتون من بعدهم.
من الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض ومهدوها ورصفوها؟!. لندّعِ الخلود إذن، ولنسأل: كم شبرًا مهّدنا من الطّريق؟
سيّدي إبراهيم.. شكرًا لكم، أنتم النّاس أيّها الأدباء، لقد أدّيتم الرِّسالة الأدبيّة، ونصحتم الأمّة، وبلّغتم الأمانة الثقافية، ونقلتم العلم...
شكرًا لأنكم علّمتمونا كيف نضحك من أنفسنا، وكيف نقرأ بأعيننا التي علاها الغبار، وأعماها غياب النّهار!!