بين خندقين.. معارض والآخر مؤيد، هناك حفرة يعيش فيها الإنسان، تحت الردم والتعب، تحت الآمال التي تهدمت على رؤوس أصحابها، هم ممثلين "كومبرس" في هذه المسرحية السياسية، يشربون حسرتهم كل يوم، على الأرض والولد والأحبة، هم الأبطال الوحيدون الذين يموتون دوماً، بدون جنائز ولا دفن، يدفنون أنفسهم بدموعهم.
عن هؤلاء.. عن سوريا وشعبها ودماءها، قدم المخرج الأردني خليل نصيرات عمله "العاديات" على خشبة المسرح الرئيسي ضمن فعاليات مهرجان الأردن المسرحي الثاني والعشرين، في العاصمة عمّان، والذي أهداه إلى روح الشاعر جهاد هديب، الذي وافته المنية قبل أيام من المهرجان.
قدم المسرحية كل من "الفنانة الأردنية القديرة شفيقة الطلّ، وعهود زيود، أريج جبور، مرام أبو الهيجا، سوزان البنوي، طارق التميمي، ثامر خوالدة" وأخيراً الطفلة ذات الموهبة العالية "راما سبانخ".
لست معارضاً أو مؤيداً.. أنا الذبيحة:
هذا ما حاول نصيرات تقديمه في عمله "العاديات" الذي كتبه هو أيضاً بجانب إخراجه له، السوري الحقيقي، الخاسر الوحيد، والـ"ذبيحة" الأكبر في هذه الأحداث، الفاقد والفقيد من زعيق الصواريخ وعماء القذائف، ستة نسوة هربوا من القصف ومن سيف الجلاد، ولجئن لبيت خراب تسكنه أم ثكلى على زوجها وأولادها الثلاثة الذين فقدوا في الحرب، والتي لا ونيس لها سوى الجرذان.
عرض المخرج ست شخصيات مختلفة، شكّلن فئات متعددة من المجتمع السوري بأطيافه وأعراقه، مبيناً نصيرات أن القتل والنزوح لا يعرف عرق أو طائفة، عايشن سوية ألم الحرب وشتاتها، وخوف الموت المترصد لهن خارج أبواب هذا البيت الخراب، حتى تأكلهن الحرب جميعهن، وتبقى الأم الثكلى المفجوعة، كما بدأت في أول العرض، وحيدةً... وثكلى.
فعل درامي خجول:
اعتمد نصيرات على الحوارات الكثيرة المتناقلة، والتي بالرغم من ضبطها الكامل لإيقاع العمل، إلا أنها افتقرت إلى الفعل الدرامي، فكان العمل جامداً فقيراً من الحدث الدرامي، ما حمّل الممثلين عبئاً أكبر في الحفاظ على الإيقاع وصنع الحالة المسرحية من خلال الأداء في حوارهم، دون اعتماد الفعل الذي يصنع الحبكة والصراع في العرض. واستمرت هذه الحالة التي تسببت في بعض الفترات من العمل بالملل لدى الجمهور المتلقي.
كما اعتمد نصيرات على الحركة الرمزية الملازمة لأداء الممثلين، والتي ارتبطت بالخوف والهلع في معظمها، إنما بأداء مسرحي بعيدٍ نوعاً ما عن المباشرة، ما اضطر الممثلين إلى تقديم أداء جسدي مضاعف بجانب الحوارات الكثيرة، التي زادت من عبء ما حملّن بسبب عدم وجود الفعل الدرامي كما أسلفنا، ما أدى ببعض الأحيان إلى خلق "ثرثرة" في الحركة.
دهشة غير مكتملة في السينوغرافيا والإضاءة :
استعان نصيرات بالفنان يزن سلمّان لتصميم سينوغرافيا وديكور العمل، وبفنان الإضاءة محمد المراشدة.
من جانب سلمّان استعان بمربعات المسرح المتعارف عليها لبناء متاهة توزعت فيها الشخصيات، بما فيه ترميز إلى المتاهة الحقيقية التي يعيشها الوضع السوري سياسياً وأمنياً، واستطاع التعبير عن حالة الدمار والخراب من خلالها، لكن اعتماد العمل على الحوار والأفكار المنطوقة أكثر من الفعل الدرامي، أمات هذه المتاهة ببعض الأوقات، بالرغم من أنها استطاعت أن تخدم مقولة المسرحية بشكل عام.
أما المراشدة الذي صمم إضاءة العمل، فقد استعان في أغلب الأحيان بالألوان الداكنة من الأحمر والأزرق والأصفر، ما أعطى العمل طابعاً معتماً في معظمه، هذه الرؤية الفنية للإضاءة، وإن كانت قد خدمت هي الأخرى مقولة العرض، إلى أنها، تشابهت وبقيت على حالها طوال مدة العمل، ما أصاب الجمهور بالملل غالباً، فلم يستطع المراشدة تقديم حالات متنوعة ضمن إطار الفكرة الإخراجية والمضمونية للعرض.
جهد تمثيلي مضاعف.. و"سبانخ" موهبة ضخمة رغم صغرها:
ربما من أهم ما قدمته فكرة نصيرات بغياب أو تغييب الفعل الدرامي في العمل، وكثافة الحوار بين الممثلين، أنه أعطى مساحات كبيرة لهم كي يثبتوا إلى أي مدى يمتلكون أدواتهم كممثلين، ولأي مدى أيضاً هم قادرين على حمل عملٍ مسرحي بهذه الصعوبة، وقد استطاعوا إثبات ذلك.
ومن جهة أخرى تحسب لنصيرات، أنه كشف عن وجه آخر لكل ممثل فيهم، غير الذي اعتاد تقديمه مسرحياً، حيث كان قادراً على صقل هذا الوجه الجديد، وجعله ملائماً لرؤيته الإخراجية ولشخوص عرضه.
أما الطفلة راما سبانخ، فقد كشفت عن موهبة تمثيلية مبدعة، لم تقل عمن معها على الخشبة من ممثلين كبار ومحترفين، كما أن المخرج فرّغ لسبانخ مساحات كبيرة، أثبت من خلالها أن هذه الموهبة، تستحق وقوفها على خشبة المسرح بمهرجان عربي يضم الكثير من الأسماء الكبيرة.