كان تعيين يوم في السنة لذوي الحاجات الخاصّة أمراً ضرورياً؛ خصوصاً وأنّه بات يعمّ معظم الدول. وأعطى ذلك الفرصة لمن أُصيب بعاهة أن لا يرزح تحت نير اليأس، بل يجد أملاً في المساعدة ليقف على قدم المساواة مع سائر الناس الأصحّاء.
<<<
وللمناسبة، يعودُني وجهُ أشهر امرأة في القرن الماضي، وقد أوصلَها كفاحُها إلى التغلّب على عاهات ثلاث رافقتها منذ الطفولة وهي: الكفاف، والبكم والصمم.
<<<
ولدت هيلين كيلر، والملقّبة بأعجوبة القرن العشرين، في ولاية ألاباما الأميركية، بتاريخ 27 حزيران من العام 1880، لعائلة راقية ومُترفة.
وكانت المولودة مثالَ الطفولة المعافاة؛ لكنها لم تلبثْ أن أُصيبتْ بالتهابٍ في الدماغ أفقدها الحواس الثلاث: النطق، والنظر والسمع.
كما تركَ والديها فاقدَين كل أمل بنجاتها.
لكن طبيب العائلة لم يفقد الأمل بشفائها؛ فأشار على الوالدين أن يعرضا الطفلة على الدكتور ألكسندر بلْ (وهو بلْ الشهير الذي اكتشفَ جهاز التلفون.) وكان مختصاً في تعليم الصُمّ والبُكم. وجاء اكتشافُهُ التلفون بالصدفة، فيما هو يحاول ابتكار وسيلة يساعد بها زوجتَهُ الصمّاء على استعادة سمعها.
<<<
كانت الطفلة هيلين، بعاهاتها الثلاث، تحدّياً كبيراً للطبيب، ولم يتمكّنْ من مساعدتها؛ إلاّ أنه اقترح على والديها أن ينقلاها إلى مؤسسة بركنز للمكفوفين. وهناك التقيا آن سوليفان، الأستاذة ابنة العشرين، والتي استعادت نور عينيها بفضل عملية جراحية.
فيما بعد، كتبتْ عنها هيلين: إن لقاءَها كان أعظم حدث في حياتي.
وقد نشأتْ علاقةٌ فريدة بين الطالبة والأستاذة عبّرتْ عنها بقولها: إن ولادتي الروحية والفكرية كانت في تاريخ 3 آذار 1887؛ أي يوم بدأتْ تدرس على يد آن. ولم تكن تلك بالمهمّة السهلة على طفلة مُصابة بثلاث عاهات. لكن الأستاذة المؤمنة بفعلها وقدرتها، تمكّنت من اجتراح الأعجوبة.
<<<
لازمت هيلين أستاذتها خمس عشرة سنة، كانت في خلالها ترافقها إلى الصف. وتنقل إليها الأستاذة، بواسطة لمسِ اليدين، ما يُقال في المحاضرات وما يُعطى من دروس. وبالطريقة ذاتها كانت تروي لها حكايات الأفلام السينمائية.
وعندما تزوجت الأستاذة، انتقلتْ هيلين لتقيم مع الزوجين.
ولم تفترقا حتى العام 1936 عندما توفيت آن.
<<<
لم تكتف هيلين بالدراسة الثانوية، بل دخلت كلية البنات التابعة لجامعة كامبردج، ثم كلية رادْكليف في الجامعة ذاتها، حيث تخرّجت في العام 1904 بدرجة ممتاز.
وفي خلال تلك السنة وضعت كتابَها الأول: قصّة حياتي. وكانت من أغرب القصص، ونُشرتْ مُسلسلة في مجلاّت كبرى. كما تُرجمت إلى خمسين لغة، بما فيها العربية.
ولم تعدّ، بعد ذلك، تتوقف عن الكتابة، وتنشر مقالاتها في مجلاّت مشهورة، كما تُدعى إلى إلقاء المحاضرات، وجلُّها يدور في فلك تجربتها الفريدة.
<<<
ولا زلتُ أذكرُ زيارتَها إلى لبنان في العام 1955. وكان لي حظّ الاستماع إليها، عندما دعتها المربية وداد قرطاس، مديرة المدرسة الأهلية، كي تلقي محاضرة في قاعة الإجتماعات.
<<<
أتقنت هيلين الكتابة بأحرف براي النافرة؛ وكانت تستخدم آلة خاصة للطباعة. ويشهد أساتذتها، وناشرو كتبها، بأنها قلّما كانت تُخطئ.
أما بالنسبة إلى الخطابة، فكان هناك عائق يتحدّاها إذْ لم تكن تسمع صدى الحروف لدى النطق بها.
وبالتالي، كان يصعب عليها أن تميّز بين الهمسِ والصراخ. لكن تدرّبها لفترة طويلة، جعلها تتغلّب حتى على هذه العقبة.
<<<
استخدمت هيلين إعاقتَها بأسلوبٍ إيجابي. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، راحتْ تطوفُ على المستشفيات، تساعد المكفوفين والصمّ الذين أُصيبوا في القتال، كي يتخطّوا إصاباتهم. ولم يكن مستغرباً أن تُنتخب في العام 1931 واحدة من أهم عشر سيدات في العالم. كما نالت عدداً من الشهادات الفخرية من جامعات قامت بزيارتها.
<<<
لكن الألقاب ما كانت لتلهيها عن المهمّة الأولى التي نذرتْ من أجلها حياتَها، وهي مساعدة المعوّقين. وكان تركيزها دائماً، على التربية.
<<<
وأقتطفُ من بعض أقوالها:
«ما دامت هناك نفسٌ واحدة تُقيم في عزلة الظلام، فإن السلام العالمي سوف يبقى حلماً».
<<<
وكتبتْ عنها الأديبة ماريان مان: «وجهُها هو وجهُ المحبّة. ما تكاد تلامس حياةَ الآخرين، حتى تترك لديهم آثارَها السحرية، وتبدّل حياتهم إلى الأفضل. وحيثما تنقل المرأة العمياء، الصمّاء، والبكماء خطواتِها، يتدفّق النور، وتُمحى الظلمات».
في العام 1968 أغمضت هذه السيدة عينيها وهي في الثامنة والثمانين، بعدما عاشتْ حياةً حافلة، وغنية بالعطاء الفكري والروحي.