دروس جدّتي

تعلّمتُ من جدتي دروساً كثيرة

لا تزال توجّه سلوكي ومجرى أفكاري.

<<< 

والسيّدة التي فارقتنا قبل نصف قرن،

لا تزال حاضرة في الضمير كما في اللغة.

وبينما أكون غارقة في حوار مع الأحفاد، إذا بها تنهض لتُّوجِّه مسارَ الكلام. فالأمثال الشعبية التي تكون غفية، أو غائبة في معظم الأوقات، تحضر لتتصدّر الكلام. ويكون المثل خيرَ شرح وتفسير للحالة. كما أعتبرُ تلك الأمثال خزّانات الحكمة والمعرفة.

وقد أولاها بعضُ أدبائنا اهتماماً خاصاً؛ وأذكر منهم سلام الراسي، الذي ترك لنا في مؤلّفاته تُراثاً غنياً من الحِكَم والأمثال الشعبية. بل إنّه ذهب في بحثه أبعدَ من ذلك عندما دوّن القصّةَ أو المناسبة التي أطلقتْ تلك الأمثال.

<<< 

وبينما تأخذُني موجةُ فَرَح وأنا أداعبُ حفيدي الطفل، وإذْ بترانيم الجدّة تنهضُ لتتسلّمَ زمامَ الموقف. وتأتيني الجرأة لأجهرَ بالإنشاد، فأسمعُني أُرنِّم، ولكل حالةِ نشيد، كما لكلِِّ موقفٍ نغَم.

أيُّ خزّان هي الذاكرة؟!..

<<< 

أحياناً تُطلُّ الجدّة في أحوالٍ مختلفة. وهي التي كانت تُرسلني في بعض المناسبات، خصوصاً في الأعياد، إلى بيت عائلة «مستورة»، كما كانت تدعو أصحابَ الحاجة. وتُحمِّلني هديّة، مع توصيةٍ مشدّدة كي أنقلَها في السرِّ، إذ لا يجوزُ أن يتباهى المرءُ بعمل الخير. وتكرّر القول المأثور: لا تدعْ يمناك تعلم بما تفعلُه يُسراك.

<<< 

أفتقدُها اليوم، وكلّما طالعتْني في الصحف، أو من خلال وسائل الإعلام، والمرئية بصورة خاصة، مشاهدُ فاعلي الخير ومباهاتهم، وحشد الشهود على أفعالهم، وكأنّما تلك المباهاة هي الثمنُ الذي يقبضونه لقاء فعلهم.

بعضُهم يبرّرُ الظهورَ باعتباره دعوةً للمُشاهد أو القارئ كي يقتدى أو يشاركَ في ذلك العمل.

وقد يكون ذلك صحيحاً. ولكن ماذا عن الحالةِ النفسيةِ للمعوزين؟ وأيّ ذلٍّ يعتريهم، ويُوارونه لتتقدّم الحاجة، وتَظهر صورةُ الفقر الذي قال عنه غاندي «إنه أسوأ ألوان العنف».

<<< 

ولا أزال أذكر دهْشةَ الجدّة وحيرتها لدى أول مشاهدة للتلفزيون، والصور تكرُّ أمامها على الشاشة، وهي، وبرغم ما وُهبتْ من فِطْنةٍ وحكمة، لا تُدركُ أسرارَ هذا الابتكار الجديد. وتسألني: هل هذا أنس أم جنّي، يا ستي؟...

<<< 

أتساءلُ عمّا ستقولُهُ اليوم، (لو أنها عاشت أكثر من القرن الذي أقامته في هذا الوجود) عن استغلال هذه الوسيلة، أي التلفزيون،

لا للظهورِ وحسب، بل ولنشر الانحطاط في الذوق كما في الأخلاق؟!...

<<< 

أقولُ هذا وفي بالي بعضُ ما تقدّمه محطاتُ التلفزيون المحلّية من سقْطِ المتاع؛ أي تلك البرامج الترفيهية القائمة على سرد النوادر والنكات السوقية المنْحطّة.

ولا أنتقدُ ذلك من موقف داعيةٍ أخلاقي، بل لأني أعتبرُ كلَّ وسيلةٍ إعلامية أداةً لا لنشرِ المعلومات وحسب، بل ولترتقي بالسلوك البشري من المراتب العادية إلى مستوى راقٍ ومتقدّم في الذوق كما في المسلك الاجتماعي.

<<< 

وكأنّما الانحطاطُ جرثومة تنتقلُ بالعدوى بين المَشاهد التلفزيونية الحديثة؛ وقد لاحظتُ تسرُّبَها إلى الإعلان إذْ راح بعضُ المشرفين على تلك الإعلانات، يتبارون في مدى السقوطِ والانحلال في الأخلاق كما في الذوْق.

<<< 

إلى أين؟

من يُحاسِبُ أو يُراقب؟

أتركُ السؤالَ معلّقاً في الهواء. وأطرحُهُ رأفةً بالناشئة التي تكبرُ وتنمو في عصرٍ يكرّسُ الفصلَ بين القيَمِ الموروثة وتلك المكتَسَبة وتكون هجينةً في معظم الأوقات.