آلام مشتركة

شعر بوخز الألم في ظهره يوم العيد، يتذكر اللحظة بدقة، رفع الأضحية ليعلقها في مسمار، وتمزق شيء ما أسفل ظهره، حاول أن يتجاهل الوجع لكنه في المساء لم يعد قادرًا على الوقوف على قدميه، أخذ مُسكّنا، ونام ليلتها أبكر من العادة، وفي الصباح وجد جسده متخشبا، رفضت قدماه أن تتحركا، وتصلب ظهره، وبقي مسمّراً في فراشه وكأنه شل.

اتصلت حفيظة بالطبيب، وفحصه طويلاً ثم قال له إنه يعاني على الأرجح من انزلاق غضروفي، ويحتاج للراحة، كتب له بعض المسكنات، وطلب منه أن يأتي إلى عيادته في أقرب وقت؛ ليخضع لمزيد من الفحوصات.

خف الألم بالتدريج، وبدأ يتحرك، أخذ له الطبيب صور أشعة، وسجل له المزيد من الأدوية، ونصحه بأن يستشير اختصاصيًّا في آلام الظهر والعظام إن لم يتحسن، لم يفعل، قال له الناس: إن الجميع يشكون من أوجاع الظهر، ولا دواء لهذا الداء، ما على المرء إلا أن يتقبله ويتعايش معه.

ساءت حالته ثانية، وصار يمشي مقوس الظهر، وأخذت حفيظة تلح عليه ليأخذ موعدًا مع دكتور مختص، «لن ننتظر حتى تصاب بالشلل؟ من يعولنا حينها؟ ومن أين نصرف على علاجك؟ فكر فينا ولا تكن أنانيا...».

استسلم لإلحاحها وزار طبيبًا مختصًا؛ أولاً وثانيًا وثالثًا... دون فائدة، يجرون له نفس الفحوص، ويكتبون نفس الأدوية، ويقدمون نفس النصائح: الراحة، والتدليك، وتجنب نوبات البرد، دون أن يكون هناك تحسن ملموس، حدثتها بعض جاراتها عن دكتور جيد في العاصمة، وجاءت تؤكد له: «في يده بركة، يداوي كل من يقصده، ولا يرد أحدًا، ولا يبالغ في أجره، يجب أن تسافر إليه، لن يشفيك غيره...»

علمته سنوات عشرتهما الطويلة ألا يتعب نفسه في مناقشتها، عندما تريد شيئا تصل إليه، شاء هو أم أبى.

وكّل أمره لله، وسافر كما أرادت.

وصل إلى العيادة في التاسعة والنصف، ووجد صالة الانتظار شبه فارغة، عجوز نائم في زاوية بعيدة، وسيدة مسنة تمرر بصمت حبات مسبحة عاجية، الصالة نظيفة، وطلاؤها الأخضر الفاتح يبعث شيئا من الطمأنينة في النفس، تردد قبل أن يسأل السيدة إن كان الطبيب قد وصل، «نعم، هو مع الممرض في الداخل» أجابته، واستند بحرص إلى ظهر مقعده، أثاث الصالة مصنوع من القصب، وقماش الأرائك، والكراسي من الصوف المصبوغ بنفس لون طلاء الصالة، نباتات كثيرة تزين رفوف النوافذ، وأركان الجدران.

«جميل.. أليس كذلك؟»، قالت له السيدة التي بدت مستعدة لقتل الوقت في الثرثرة الدكتور يحب أن يحيط نفسه بمنتوجات طبيعية، يقول: إن أصل أمراض العصر هو التصنيع واستهلاك الكيماويات بإفراط...»

هز رأسه.. وتابعت بشيء من الإلحاح:

«وهذا ما يميزه عن غيره، حتى أدويته نسبة السموم الكيماوية فيها قليلة للغاية».

نظر حوله بريبة، ما دام ناجحا لهذه الدرجة، لم مرضاه قلائل؟ وماذا ينتظر لاستقبالهم؟

ظهر الممرض أخيرا، رجل في الأربعينيات، ساعداه مشمران، وأنفاسه متلاحقة، أيقظ العجوز النائم، وساعده ليقوم ويدخل، ودلف خلفه.

 مرت الدقائق بطيئة، وكادت تكمل الساعة عندما خرج العجوز أخيرًا، أوصله الممرض إلى الباب، وعاد إلى مكتب الطبيب، وأغلق الباب خلفه.

 بدأت وصلة انتظار ثانية، طويلة.. ومحبطة.

«مسكين.. نتعبه كثيرًا، شفى الله الجميع..» تمتمت السيدة بغموض، وعادت لمسبحتها.

خرج الممرض أخيرًا، وساعداه مشمران دائمًا، ودعاها للدخول.

 كانت الساعة قد شارفت على الثانية عشرة، بدأ يشعر بالقلق، هل سيراه الطبيب هذا الصباح؟ ماذا لو طلب منه العودة بعد الظهر؟ أو في الغد؟ لا يريد أن يقعد في هذه المدينة طويلاً.

خرجت المرأة، وفي إثرها الممرض، التفتت إليه وقالت بابتسامة مطمئنة: «إنه لطيف.. لا ترهقه كثيرا..».

لم يدعه الممرض للدخول، أغلق باب مكتب الطبيب خلفه من جديد، واختفى.

قاربت الساعة على الثانية ظهرًا، بدأ يشعر بالجوع، والإعياء، والنرفزة، واستبد به القلق.

«تفضل...» قال له الممرض الذي ظهر فجأة أمامه، فهم أنه غفا دون أن يشعر.

فرك عينيه بكسل، وقام يتبع الممرض، جلس على سرير الفحص الذي أشار له الرجل، ونظر إليه وهو يقترب من عجوز مسن غارق في كرسي متحرك وسط الغرفة.

«الدكتور مجهد قليلاً، يحتاج لجلسات تدليك بين الفينة والأخرى، حاول ألا تتعبه، مفهوم؟ قم بكل ما يأمرك به...».

فغر فاه بذهول، وحبس ضحكة منفعلة.