ماري كوري

اختيرت العالمة ماري كوري، قبل أيام، أعظم امرأة في التاريخ.

وقد تمَّ الانتخاب في وطنها الأم، بولونيا، وفي عملية تصويت عَبْرَ «الإنترنت» والمجلّة التاريخية «موفيا فييكي».

<<< 

وممّا يجدُرُ ذكرُه أن هذه العالمة ولدتْ في مدينة «فرصوفيا» ببولونيا في العام 1867. لكنها أمضتْ القسمَ الأكبرَ من حياتها في فرنسا. وكانت الوحيدة التي نالتْ جائزة نوبل مرّتين: الأولى في العام 1903 عندما حازتْ نوبل للفيزياء، بالمشاركة مع زوجها العالم الفرنسي بيار كوري. ثم في العام 1911 حين كافأتها لجنة نوبل بجائزتها للكيمياء.

<<< 

وأعلن مجلس الشيوخ البولوني هذه السنة (2011) سنة ماري كوري. وتتضمّن فاعليات عدّة، في بولونيا وفرنسا، بينها معارض وندوات، ومؤتمرات وأفلام.

وللعالم الشهير أينشتاين شهادة هامّةٌ فيها حين قال: «إنها الوحيدة بين المشاهير الذين لم تفسدْهم الشُهرة».

<<< 

وُلدتْ مانيا سكلودوفا (ماري كوري) في عاصمة بولونيا، فرصوفيا، سنة 1869 وكان أبوها عالم فيزياء، وأمُّها سيدة مثقّفة. لكن العائلة عانت من الفقر. ممّا اضطرَّها، وهي طالبة، أن تلجأ إلى إعطاء دروس خاصة، والعمل كمربيةِ أطفال، كي تساعد شقيقتَها، بْرونيا، في دفع أقساط الجامعة. وبعد تخرُّجها كطبيبة تزوجت من زميل لها، وأقاما في باريس. ومن هناك دعت ماري لتتابع دراستَها، وتُقيم معها في باريس.

<<< 

كانت قد بلغت الرابعة والعشرين من عمرها حين دخلت جامعة السوربون. ويُذكر أن زملاءَها الطلاب كانوا يتأمّلونها باستغراب ويتساءلون: «من تكون تلك الفتاة الجدّية، ذات الثياب القاتمة، والشعر الأشقر الناعم؟ وهي دائماً في المقعد الأمامي خلال درس الفيزياء». فيردُّ بعضُهم على ذلك التساؤل بالقول: «إنها الفتاةُ الغريبة ذات الاسم العجيب».

<<< 

وقد اعترضت «الفتاة الغريبة» أكثر من عقبة، بينها جهلُها اللغة الفرنسية وتحتاج أن تقوّيها. وكان خجلُها يمنعها من الاختلاطِ بالطلبة الفرنسيين، فتكتفي برفقةِ البولونيين.

<<< 

ولم يكن همُّها مخالطةُ الطلاب بقدر ما كانت متعطِّشةً إلى العلم. وبسبب فقرها أهملتْ صحّتها، حتى أُصيبتْ بسوءِ تغذية، وكان يُغمى عليها في بعض الأوقات، ممّا دفع شقيقتها الطبيبة أن تحملَها إلى منزلها كي تُشرفَ على مداواتِها إلى أن استعادتْ عافيتَها. ولكنها رفضتْ السكن معها.

ويُلاحظ الذين عرفوها في تلك المرحلة، بأنها كانت مُنظَّمة، صبورة، عنيدة، تعرف ما تريدُ وتسعى إليه بكل قوّتِها وصفاءِ ذهنها. وما تريدُه كان العلم والمعرفة، تنهل من منابعهما ولا تكتفي.

<<< 

وقد لاحظ أستاذُ الفيزياء، بيار كوري الفتاة المميّزة، فراح يتقرّب منها. كما أنه لفت انتباهَها بهدوئِهِ وبساطتِهِ ووضوحِ أفكاره، وبشخصيته التي توحي بالثقة والمحبة.

<<< 

وفي إثرِ أولِ لقاء بينهما كتبَ العالم في مفكرتِه: «إن النبوغَ العلمي نادرٌ جداً لدى النساء. والليلة اجتمعتُ بفتاةٍ جميلةِ الطلعة، نيِّرة الفكر. وقد سعدتُ بمعرفتها واكتشاف نبوغها. كما أن التحدثَ إليها متعةٌ كبرى».

<<< 

وكان لبيار سحرُه الخاص. فهو ذكي، طبيعي الأناقة، باريسي المولد، متحدّرٌ من عائلة علماء، ويُصنَّفُ بين عباقرةِ زمانِه، إذ كان في التاسعة عشرة من عمره عندما أصبح أستاذاً في كلية العلوم ثم عُيِّنَ رئيسَ فرع الفيزياء والكيمياء في الكلية.

هذا هو الرجل الذي سيصبح زوجاً للعالمة ماري كوري. أما أوّلُ هدية تلقّتْها منه، فكانت كتاباً علمياً من تأليفِهِ، ويحملُ الإهداءَ التالي: «إلى الآنسة سكلودوفا مع احترام ومحبّة المؤلِّف».

<<< 

تلك المحبة، وذاك الاحترام جعلا بيار يتقدّم من ماري بطلبِ الزواج؛ فتردّدتْ بادئَ الأمر، إذْ كانت مصمِّمةً على العودةِ إلى بولونيا. وقد عادت إليها بالفعل. وظلَّ بيار يلاحقُها برسائله، محاولاً إقناعَها بالعاطفة تارةً، وطوراً بالمنطق، حتى أنه أبدى استعدادَه للذهاب إلى بولونيا وإعطاء دروس باللغة الفرنسية ليبقى بقربها.

وكانت ماري تُدركُ مقدارَ تلكَ التضحية، فعادتْ إلى باريس، وتمَّ الزواجُ ببساطةٍ ومن دون ارتداء الثوب الأبيض، أو إقامةِ الاحتفالِ التقليدي وتقديم الهدايا.

<<< 

وتروي ابنتُها إيف لابويس في كتابِها عن والديْها: «كلّ ما كانا يملكانه هو دراجتان هوائيتان، ينتقلان بواسطتهما بين قرى الريف حيث قضيا أيامَ العسل السعيدة».

ورُزقَ الزوجان بابنتين: إيرين وقد أصبحت عالمة كبيرة، ثم إيف. وكان لي حظّ لقاء الأخيرة، وإجراء مقابلة صحفية معها في منتصف ستينات القرن الماضي حين أقامت مع زوجها في بيروت، وكان مديراً لوكالة إغاثة اللاجئين «الأونروا».

<<< 

شكّلتْ ماري مع زوجها بيار، فريقاً علمياً نادر الوجود، فسجّلا معاً أو منفردين اثنين وثلاثينَ بحثاً علمياً خلال خمس سنوات.

أما الحدثُ العظيم، فقد جاء في العام 1903 عندما أعلَنَتْ أكاديمية العلوم السويدية منحَ الزوجين والعالم بيكيريل جائزة نوبل للفيزياء. وكتبتْ ماري، في حينه، رسالةً إلى أخيها جاء فيها: إني منزعجة من الصحافة ومن الظهور والشهرة، وأتمنّى لو أختبئ تحت الأرض كي أنعمَ بالهدوء».

<<< 

وفي العام 1911 منحتها أكاديمية العلوم في ستوكهولم جائزة نوبل للكيمياء تقديراً لإنجازاتها المنفردة بعد وفاةِ زوجها. وكانت وحدَها من بين الرجال والنساء، مَنْ نالت تلك الجائزة العلمية الكبرى مرّتين.

وبقي شعارُها الدائم: «في العلم علينا أن نهتمَّ بالأشياء لا بالأشخاص».