شاهد على ضغطة الزر (1)

أمضينا وقتا طويلا في انتظار تلك اللحظة، الشروع في السفر إلى الجنوب ضمن فريق الكشافة الذي كان يعتبر جزءا من نشاط مدرسة العباسية الصناعية التي التحقت بها عام تسعة وخمسين، كانت المدرسة تقع بجوار مخزن الترام، أي النقطة التي تنتهي عندها كل الخطوط، وتقضي العربات ليلها في المخزن القريب من مستشفى الحميات، كانت كلية الشرطة في مواجهتنا، أيضا معسكرات الجيش، هذه المنطقة كانت حدود المدينة، حيثُ المنشآت التي تقام على الأطراف، المعسكرات، مستشفى الحميات، مستشفى الأمراض العقلية، لم يكن التخطيط لمدينة نصر قد بدأ بعد، كان المكان الذي أصبح وسط المدينة الآن، يموج بالزحام والضجيج يعتبر خلاء، وكان الإحساس بالصحراء قويا داخل فناء المدرسة التي تخصصت في النسيج والسجاد، انضممت إلى فرقة الكشافة، كان الترحال مؤججا للخيال، وقد بدأته منذ الطفولة، عندما أصحب الأسرة إلى جهينة حيثُ مسقط رأسي، هذه المرة أسافر بمفردي خارج النطاق الأسري، أتجاوز رحلات المدرسة ذات اليوم الواحد: القناطر، حلوان، الأهرام، وسقارة. أتأهب للاتجاه جنوبا إلى الأقصر وأسوان، نفس القطار الذي أحفظ المحطات التي يتوقف عندها، لسبب ما تخلفنا عن الموعد المحدد للسفر، أمضينا الليلة في المدرسة، نِمنا في الفصول فوق الأرض، مازلت أذكر أشعار الكشافة، «كن مستعدا»، أيضا القدرة على التكيف مع الظروف، سافرنا ليلا، اعتدت الرحيل إلى سوهاج مع الأسرة نهارًا، المرة الأولى التي أقطع فيها البر الصعيدي ليلا، وصلنا الأقصر، أمضينا فيها أربعة أيام، أسست لعلاقتي بالمدينة التي بلغت أوجها في السنوات الأخيرة.

بعد الأقصر ركبنا القطار متجهين إلى أسوان، كان بطيئا، يتوقف عند كل قرية وليس مدينة، أذكر وقفة طويلة في دراو، نزلنا فيها من القطار، وتجولنا في المدينة الصغيرة، قبل أن نستأنف إلى أسوان، المدينة العريقة تقع في منتصف المسافة بين المدينة والقرية، كانت منفى للموظفين والمغضوب عليهم، أذكر أن العملة السودانية كانت متداولة وكان الإحساس بالبعد طاغيا، غير أن جمال منطقة الشلالات كان طاغيًا وفريدًا، كذلك جزيرة فيَلة، هنا النيل ينطلق في حالته الطبيعية رغم وجود خزان أسوان، نزلنا في مدرسة ثانوية، أذكر مساحة الحجرات التي أخليت من مقاعد الدراسة، ورصت فيها أسرّة عليها مراتب مريحة، لكنني لا أذكر اسم المدرسة، غاب عني، على الجدار كان الأثر الوحيد المتبقي من معالم الدراسة سبورة سوداء عليها كتابة بيضاء متقطعة، آثار الدرس الذي كتب قبل بدء الإجازة، علمنا أن الفصول أعدت للنوم؛ لأن سباقا دوليا للدراجات يمر بأسوان، قادما من الجنوب، متجها إلى الشمال، لا توجد فنادق مناسبة لنزول العدد الكبير للمشاركين، وكانوا من جنسيات مختلفة، تم إعداد فصول المدرسة للنوم، اللاعبون غادروا في صباح اليوم الذي وصلنا فيه، هكذا نِمنا فوق الأسرّة التي تمددوا هم فوقها، مساء الثامن من يناير أبلغنا المشرف على الرحلة أننا سوف نحضر غدا مناسبة هامة جدا لن يُخطرنا بها إلا في الطريق إليها، كنت أعرف أن الرئيس جمال عبد الناصر في أسوان، وأن احتفالا سيجري بمناسبة البدء في بناء السد العالي أخيرًا بعد كفاح استمر عدة سنوات تم من أجله تأميم القناة، والتعرض للعدوان الثلاثي، أصبح السد رمزا ومركزا تتجمع حوله الأمة المصرية كلها، وأسهم العلم والفن في تأجيج المشاعر وحشد الطاقات، وعندما أستعيد أغاني هذه المرحلة أجدها نابعة من القلب، خاصة عبد الحليم حافظ، في «حكاية شعب»، لم أعرف واقعا يفيض مصداقية مثل هذه الحقبــة التـي مهـدت لبناء السـد، والتـي شهــدت ملحمة بنائــه، وإن كان تمامه عام تسعة وستين لم يحظَ بما يستحق من وقفة بسبب كارثة سبعة وستين