لا تقاطعني من فضلك. كنت أقول إن اليمام لا يهاجر في الخريف؛ لأن بلادنا دافئة وشتاؤها قصير. نعم؟ لو كنت تستمعين لي بانتباه لعرفت أن فكرتك هذه قلتها أنا في البداية.
أرجوكِ! دعيني أكمل فكرتي. قلت الأرانب لا تهاجر.. الدليل؟ الدليل أنها لا تطير طبعا.. تناقشينني في البديهيات حضرتك ولا تعطينني فرصة إتمام معنايَ. لا، لم أقل اليمام، بل قلت الأرانب. أرجوكِ أرجوكِ لا تقاطعيني!
ماذا كنت أقول؟ نعم، البطيخ فاكهة صيفية. والدليل على أنها صيفية... لا بالطبع لم أخرج عن الموضوع، أنتِ التي تخرجين عنه طوال الوقت، وتخرجينني عن تركيزي، وتشوشين عليَّ بلا انقطاع.
الكانتالوب. لا، لم أقل البطيخ، بل قلت الكانتالوب منذ البداية. لا يا سيدتي العزيزة أنا لا أغير مواقفي!... منذ البداية وأنا أقول إن القنفذ حيوان شوكيّ.. لا.. وأنا أتحداكِ.. لم أقل أبدًا: إن الكانتالوب يهاجر في الخريف.. القنفذ حيوان شوكيّ!.. القنفذ حيوان شوكيّ! قلتها وسوف أقولها إلى الأبد. لست من الذين يغيّرون مواقفهم مهما كانت المغريات. دعيني أكمل فكرتي من فضلك!
قلت إن التونة سمكة تحب أن تتعلّب، لم أقل «تتلعّب»، تتعلّب!.. تتعلّب! من فضلك من فضلك أرجوكِ لا تقاطعيني! كنت أقول... ضاعت مني الفكرة.. آه.. نعم.. الزوارق الحربية تطلق معلبات على السفن الكبيرة.. لا، بالطبع لا أناقض نفسي. أنا رجل صاحب موقف.. صاحب قضية.. لست ممن يقفون بالساعات أمام المرآة أصبغ شفتيّ ومواقفي!!
أنا لا أقاطعكِ يا سيدتي، أنت التي تقاطعينني طوال الوقت! لو استمعتِ لي دقيقة واحدة دون مقاطعة لأفحمتك.. لا، لم أقل أفحمتك. قلت لأقنعتك. أقنعتك. أرجوكِ توقفي عن الكلام لحظة واحدة، أعطيني الفرصة لأوضح ما أعنيه
وأصيب الضيف الكبير على الهواء مباشرة بنوبة بكاء وشفقة حادة على الذات، فاستغلت الضيفة اللامعة الفرصة وانطلقت في هجوم سريع الكلمات واللكمات، تثبت بالحجة وراء الحجة أن محدثها مجنون، ومنشق، وزنديق، وجاسوس، وعميل، ومتخلف، ومتشدد، ومتكبر متعجرف كثير الكلام بلا معنى، وأستاذ في مناقضة النفس، كل جملة تناقض التي سبقتها.. فقد بدأ باليمام، وفجأة صارت اليمامة أرنبًا، ثم تحول الأرنب دون مبرر منطقي إلى بطيخة، وكان من السهل عليه بعد ذلك أن يحولها إلى ثمرة كانتالوب...
وكانت ستستطرد لتسرد باقي التناقضات العجيبة في حديث الضيف، لولا أنه تمالك نفسه وجفف دمعه وقال:
- لم أقل شيئًا من هذا على الإطلاق! فأنا مواقفي معروفة وتدعمها الأفعال، وإن كان قد حدث بعض التباين فيما كنت أقول قبل أن أنفجر في البكاء فسببه مقاطعتكِ وتشويشكِ عليّ بلا انقطاع. (وانفجر ثانية في موجة بكاء مرير، ثم قال والدمع يخنقه):
وأنا أتحداكِ وأتحدى السادة المشاهدين في المنازل –أيا كان عنوانهم- بل وأتحدى السيد المذيع والفضائية التي يمثلها أن يثبت.
وانقطع البرنامج فجأة. وأخذ المشاهدون، في عمارة رقم كذا شقة كذا في حاضرة كبرى من حواضر العرب، يناقشون ما دار في البرنامج، والآراء التي طرحها المتحاورون، فانقسموا إلى فريقين: فريق يرى أن البرنامج كله هراء في هراء، وفريق آخر يرى أنه بالعكس أثار قضايا شديدة الحيوية، خاصة في زمن العولمة، وأنه أعطى الضيفين الفرصة العادلة لبسط آرائهما، دون تمييز لأحدهما.
ولما وصل النقاش إلى تلك الآراء، قال الفريق الأول: إن الضيف لم يقل شيئًا ذا معنى، والأخرى لم يكن في ذهنها أية رسالة أو هدف غير تسفيه آراء خصمها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لكن الفريق المؤيد للبرنامج احتدّ في الرد على المناهضين، وصار الفريقان يقاطع أحدهما الآخر حتى تحول النقاش إلى عنبر مجانين خطرين يصرخون بلا انقطاع ويمزقون ملابسهم وهم يزومون